اندفعت سيدة بعد انتهاء الحفل الموسيقي إلى عازف الكمان الشهير "فريتز كرايزلي" وصاحت قائلة: إنني مستعدة لأن أقضي حياتي كلها لكي أعزف مثلك! فأجابها النابغة: إن هذا بالضبط ما فعلته أنا يا سيدتي... لا شيء أكثر من ذلك!

Ad

***

يظن كثير من الناس أن القدرة على التميز والإبداع محاطة بسور منيع يقبعون خارجه، وأن الأمر مرهون بوجود الموهبة التي يولد بها بعض الناس ويحرم منها الآخرون، وأن المواهب مقصورة على العباقرة والعظماء، وأنهم وحدهم القادرون على الخلق والإبداع، لكن الواقع، وقراءة سير العظماء وتجاربهم في الحياة تثبت لنا أن القدرة على الإبداع ليست امتيازا خاصا لفئة مختارة من الناس، أو فيضا من النور يستمتع به البعض ويحرم منه البعض الآخر، فالجميع يمتلك الموهبة والقدرة على التميز، وإن تفاوتت هذه المواهب والقدرات في درجاتها وإمكاناتها بين فرد وآخر.

فالمحرك الأول للتميز والإبداع في واقع الأمر هو الطموح، ثم يتبعه بعد ذلك الحركة والنشاط وبذل الجهد ليستطيع المرء اكتشاف قدراته ومواهبه كي يستغلها لفائدته وفائدة الغير، وأن يحاول المرة بعد الأخرى ولا يركن للكسل واليأس بعد أول محاولة، وأن يؤمن بقدرته على النجاح، وأنه يملك الموهبة كما يملكها غيره، وأنه لكي تبرز هذه الموهبة بشكل واضح فلابد من العمل الشاق والمضني، فلا أحد من العباقرة والعظماء ركن إلى الدعة والراحة منتظرا ما تجود به موهبته عليه من عطاء!

فعندما قرر رائد علم الفلك الحديث السير "وليام هرشل" أن يصنع أعظم منظار فلكي في العالم- في حينه- بدأ أولا بتعلم كيفية صنع وصقل المرايا، وبعد شهور عديدة من هذا العمل، جاءت مرآته الأولى على غير ما كان يرجو وبشكل مثير لليأس والإحباط، إلا أنه بعد مئتي محاولة فاشلة استطاع أن يصنع المنظار الفلكي الذي يرضيه، ويبهر العالم بأسره!

واحتاج الموسيقار "يوهان برامز" إلى جهد اثنين وعشرين عاما متواصلة، لكي يستكمل سيمفونيته الأولى والرائعة!

أما "غوستاف فلوبير" فقد أنفق عشر سنوات من الكد والعناء، والتصحيح والتعديل، كي ينهي رائعته الأدبية "مدام بوفاري" والتي اعتبرها بعض النقاد أفضل رواية كتبت على الإطلاق!

أما المؤرخ والفيلسوف الشهير "ويل ديورانت" فقد أمضى وزوجته أكثر من أربعين عاما من الجهد الخارق في كتابة 11 مجلدا ضخما لـ"قصة الحضارة" والذي يعتبر أفضل مرجع لمن يبحث عن تاريخ الإنسان منذ نشأته وحتى الثورة الفرنسية، وكان في نية "ديورانت" أن يصل إلى الحضارة الغربية في القرن العشرين إلا أنه توفي في عمر السادسة والتسعين وهو راغب في مزيد من العمل والإنجاز!  

وفي لقاء تلفزيوني للاعب الشهير "زين الدين زيدان" قال تعبيرا عن المجهود الخارق الذي بذله في صقل وتطوير موهبته: لا أدري كم مرة ركلت الكرة قبل أن أصل إلى اللعب في صفوف ريال مدريد، ربما مليون مرة، لست متأكدا... ربما أكثر!

نعم... قد لا نرى، بالنظر إلى قدراتنا وإمكاناتنا الظاهرة، أننا مؤهلون لنظم قصيدة جميلة أو ابتكار مقطوعة موسيقية أو اكتشاف نجم جديد في السماء، لكننا إن أردنا التعمق في الأمر واستكشاف حقيقة هذه القدرات والإمكانات، فيجب أن نعمل ونواصل العمل ليل نهار، وإذا ما كان هذا العمل مثيرا للمتعة أو الفضول أو الابتكار، فسوف نستخدم فيه نفس القوى التي يستخدمها العباقرة، ونرى نتائج عمل مقاربة لما أنجزوه... وإن افتقدنا لما يمتلكونه!