في نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي حتى منتصف الثمانينيات منه راجت في السينما المصرية الأفلام التي تحكي فضائح تجار "البولبيف" الفاسد الذي استورده العديد من رجال الأعمال في المجتمع المصري مع أطراف في مواقع حساسة في الدولة، ونجحوا في جني ثروات طائلة من وراء الاتجار به في بلدهم، وبعد ذلك أقيمت عدة محاكمات لبعض من استورد ذلك اللحم المعلب الفاسد الذي كان بعضه مخصصاً للحيوانات الأليفة من قطط وكلاب، أعزكم الله، وصدرت أحكام بعضها قاس، وصودرت أموال المتورطين في تلك الجرائم، كنا في تلك الحقبة نشاهد تلك الأفلام ونقرأ أخبار المحاكمات، ونستغرب أن يصل الجشع والنذالة بأشخاص إلى أن يقدموا أغذية فاسدة إلى أبناء بلدهم، التي قد تصل إلى أبنائهم وأقربائهم، ولكني اليوم وأنا أتابع مسلسل الأغذية واللحوم الفاسدة في الكويت، التي وصلت إلى آلاف الأطنان، أدركت يقيناً أن الفساد نتائجه واحدة مهما كانت طبيعة المجتمع وظروفه الاجتماعية والاقتصادية الذي يستفحل فيه.

Ad

نواب الأمة الأفاضل ومنذ انكشاف هذه الفضيحة الكبرى لم يرف لهم جفن أو يتداعوا لتحرك عاجل، رغم أن المعلومات التي تتوارد تشير إلى أن هذه الأغذية تتراكم في منافذ البيع للعامة منذ أكثر من عامين، وأن نسبة كبيرة من المستهلكين من أطفال في طور النمو وعجائز وسائر الناس قد تناولوا بعضاً من هذه الأغذية الفاسدة سواء بشكل مباشر أو عن طريق مواد غذائية مصنعة استخدمت فيها تلك العناصر الغذائية كمواد أولية، وهو ما قد يفسر مسؤوليتها بنسبة ما في انتشار بعض الأمراض المستعصية والغريبة في البلد، خاصة من جراء البكتريا الموجودة في اللحوم والدجاج ومنتجات الألبان الفاسدة والملوثة، ومع كل هذه المعلومات المفجعة لم يتحرك أي نائب من الـ49، ويبادر إلى طلب جلسة خاصة لبحث الموضوع، أو الاستجابة لنداءات القانونيين في جهات مختلفة بتعديل بعض المواد القانونية لإطلاق يدهم في ملاحقة عبدة الدينار الملوث بمعاناة الرجال والنساء والأطفال الذين أقعدهم المرض أو سلب حياة عزيز لهم، بسبب تلك التجارة القذرة التي تتساوى مع تجارة المخدرات من حيث الأثر والمفعول، ومازال النواب عند أجنداتهم السياسية الخاصة لملاحقة وزير بسبب تعيينات يريدون حصتهم منها، أو الترصد لوزير آخر أقسموا  سابقاً على إقصائه من موقعه، دون أي إحساس بمعاناة الناس الذين لو كانوا في دولة أخرى وقعت فيها هذه الفضيحة لقامت الدنيا ولم تقعد، حتى يكلف مدّعون خاصون لملاحقة المتورطين، وتعدل القوانين لأقصى العقوبات لردعهم وحماية المواطنين.

ورغم المطالبات الحثيثة منذ سنوات لإنشاء هيئة حماية المستهلك بعد عجز الإدارة الصغيرة المكلفة هذا الأمر في وزارة التجارة عن القيام بتلك المهمة الكبيرة، فإن الحكومة مازالت تستجيب لضغوط المتنفذين، وترفض إنشاء تلك الهيئة، وغالبية النواب ليس لديهم الإرادة لدعم إنشائها، ولكننا نرجو من نوابنا على الأقل متابعة ما بادرت إليه المحامية في الإدارة القانونية في بلدية الكويت السيدة مريم العميري بصياغة جملة من التعديلات على قانون قمع الغش التجاري رقم 62 لسنة 2007، للتعامل مع هذه الفضيحة وتشكيل جبهة حماية عاجلة للمجتمع من خلالها، ومن أهم هذه التعديلات اعتبار التلاعب بالأغذية جناية بدل جنحة، وجعل أمر نزع ملصقات البلدية بمنزلة جناية فض الأختام الرسمية، وتعديلات أخرى تتطلب تحركاً عاجلاً لإقرارها، ولكن السؤال من يتجاوب لجعل هذه التعديلات الهامة أولوية عاجلة في الأيام المقبلة على جدول أعمال مجلس الأمة؟

أعلم أن تجارة الأغذية والمطاعم هي تجارة مربحة في الكويت، و"أكبرها وأسمنها" من القوى الاجتماعية والسياسية، تشكل هذه التجارة عصب مواردهم المالية، وغالبية المفتشين من بلدية الكويت ووزارة التجارة يخشون حتى الاقتراب للتفتيش على مصانع الأغذية الخاصة بهم أو سلسلة مطاعمهم، ولكننا وأبناءنا للأسف زبائن دائمون لديهم، فمن يحمي صحة الناس إذا كانت العقوبة- إذا ضبطت وأضع مئة خط تحت كلمة "إذا"- مجرد جنحة أقصى عقوبتها سحب ترخيص الشركة، الذي يقوم المخالف باستبداله بآخر خلال أيام، أو غرامة خمسة آلاف دينار، بينما يجني المتلاعب مئات آلاف الدنانير من تلك التجارة القذرة، يحتفظ بها ولا تتم مصادرتها، وغالباً ما يفلتون من العقاب بتحميل القضية للشريك أو المدير الوافد الذي يتم تهريبه من البلد قبل أن يصل إلى المحكمة ويتكلم... فهل سيتحرك نواب الأمة لمواجهة هذه الكارثة وأبطالها من تجار السحت، أم سيكونون شركاء بسكوتهم عن تجارة الأغذية الفاسدة وما ينتج عنها من ضحايا؟