«الحبيب» و«الخميس» والهويات القاتلة
ينادي الكثير من العقلاء والمطالبين بالدولة المدنية بدمقرطة المجتمع ثقافياً، ضد الإسلام السياسي وضد سلطة المال الاجتماعي وسلطة الحاكم واستبداديته، لتجنب الحروب المستعرة بين الأديان والمذاهب وحتى لا ينحدر المجتمع وأسس الدولة المدنية، بعد فشل الإيديولوجيات الدينية والأصولية في التعايش بينهما، وقد سجل التاريخ القديم الكثير من المجازر بين الشيعة والسنّة قبل وجود الكيان اليهودي وأميركا، تجنباً لاتهام الجانبين بتأجيج هذا الصراع كما يردده الناس سعياً، لدرء الشبهة عن المدرستين الدينيتين في الإسلام بأنهما لا يحملان الكراهية والضغينة في أدبياتهما الأصولية.إن أتباع المذهبين الشيعي والسنّي يعلمون بذلك إما جهلا بدورهم في إنجاح هذا المشروع المدمر، وإما رغبة لبقاء الدعم الإيديولوجي والمالي لبعض المتنفعين لديمومة المجد الكاذب والخادع، وإن توظيف الدين كأداة فعالة في القتل ولإقصاء المذهب الآخر، أفضل أداة استخدمت في تاريخ الأديان كلها لقمع المختلفين دينياً (البروتستانت والكاثوليك) قبل سيادة الدولة المدنية، ولعل الشيعة والسنّة لم يكونا بمنأى عن مثل دموية ووحشية الصراع الإيديولوجي المسيحي، على نحو يتعارض مع العقل والمنطق بأسباب وأهداف هذا الصراع.
وارتأيت في مقالي هذا عرض نماذج تاريخية لهذا الصراع الذي أخذ بطابعه المتطرف المقيت لكل القوانين البشرية، وقد بدأت تلك الحروب بعد أن أخذت الكتابة والورق طريقهما إلى العالم الإسلامي، وأخذ العلم يتطور ويبرز دور المفكرين الأحرار في الإسلام بعد عصر الترجمة التي سطعت في عصر المأمون والمعتزلة، ولكن سرعان ما انتهى هذا الدور المتألق لدور أكثر ظلامية في عصر المتوكل وبداية تشكل الإيديولوجيات المتطرفة، وقد بدأ التطرف يتطور وينتشر بفضل تقنية الكتابة عبر تناقل الأفكار المميتة ليبدأ من القرن الثالث أوج هذا الصراع وبتشجيع من السلطة السياسية التي تغذي تلك الصراعات.ففي كتاب رائع "هرطقات- ج2" لمؤلفه جورج طرابيشي تبيان لدور هذا الصراع الدامي الذي لم يسقط ولم ينته رغم تقادم الزمن عليه، بل بدأ من القرن الثالث الهجري ولم ينته حتى الألفية الثانية، ولعل ما نشاهده من اقتتال طائفي في العراق وباكستان خير دليل لمدى الكراهية ونبذ الآخر والحقد الكامن منذ ألف عام مضى ويزيد، ويبين جورج طرابيشي الحرب الكلامية بين السنّة والشيعة وأثر تلك الكلمات والأقوال وتأثيرها على تلك الطائفتين من قتال دامٍ وتشويه لصورة البشرية، ويتحول العصر الذهبي إلى عصر دموي تنتشر في أرجائه رائحة الموت. • الحرب على الجبهة السنّية: كما يوردها طرابيشي وباعتماده على آراء علماء ذلك الزمن بتكفير الشيعة وأورد بعض الأسماء ولن أورد ما قالوه حتى لا أكون سبباً في نشر صور قميئة للتطرف المذهبي: أحمد بن حنبل، والبخاري، وعبدالله بن إدريس الأودي، والإمام الفريابي، وأحمد بن يونس، وأبوبكر بن هانئ، وعبدالرحمن بن حاتم، والإمام أبي عبيد القاسم بن سلام، والإمام الآجري، والإمام البربهاري، والإمام الإسفراييني، والإمام العكبري... وغيرهم الكثير من العصور القديمة إلى يومنا هذا، يتوارثون تلك الأحقاد جيلاً بعد جيل، وجلّ فتاواهم تنصب في دائرة الكفر وبالتالي القتل بتهمة الكفر والزندقة.• الحرب على الجبهة الشيعية: لا تختلف المعركة المضادة لفتاوى شيعية أشد قساوة وبشاعة من نظيرتها السنّية ومنهم: ابن بابويه القمي الصدوق، زين الدين العاملي، ويوسف البحراني، والعلامة الحلي في كتابه "منتهى الآمال"، ومحمد صالح المازندراني، والقاضي التستري، والمجلسي في "بحار الأنوار"، والحر العاملي ومحمد جواد العاملي في "مفتاح الكرامة"، وآية الله محمد أمين زين الدين، والسيد الخوئي في كتابه "مصباح النقاهة"، والخميني في "تحرير الوسيلة"، ومحمد باقر الصدر في "شرح العروة الوثقى يقيم التمييز بين مفهومي النجاسة والأنجسية"... والكثير من تلك الفتاوى البائسة.والبحث في هذا الموضوع هو بحث كبير يورده طرابيشي في كتابه "هرطقات- ج 2"، ومن ثم يبدأ التحول بعد هذه الحرب الفقهية والفتاوى التكفيرية فيرصد أحداث القتل والعنف بعد ذلك حتى يبدأ عصر أكثر سمية وهو العصر الصفوي والعثماني، لتتجدد دائرة العنف والقتل والتشريد للطائفتين.التطرف والغلو والتشدد لم يقم بها "عثمان الخميس" و"ياسر حبيب"، بل هما امتداد لنماذج سابقة أكثر بشاعة وقساوة، وهو موروث لم يزل البعض يصدح به على المنابر وبين طيات الكتب، وهما نتاج طبيعي لتلك المدرسة الفقهية الأشد دموية في التاريخ الديني، ولا يمكن أن يكون الدواء لتلك الظاهرة المريضة إلا بإقامة الدولة المدنية لا الوسطية الكاذبة، لتنتهي تلك النزاعات الذي ذهب ضحيتها الأبرياء، بينما الكهنة الدينيون باقون لحصد الغنائم بعدد رؤوس ضحاياهم البريئة.