في أواسط الثمانينيات من القرن المنصرم كان «عادياً» جدا لناشئ مثلي يتلقى تعليمه الأولي في مدينة الرياض السعودية أن يألف أو يتآلف مع اسم عبدالله بن خميس، ذلك العلم المتسم بالوقار العلمي، والباحث في التاريخ والأدب على حد سواء، فالصحافة السعودية الأسبوعية والشهرية تحديدا -مجلة اليمامة والمجلة العربية- كانت مرتعا خصبا للتعريف بمؤلفاته وحياته وإنجازاته الكبيرة، هذه المجلات تحديدا كنا نجد فيها ما يسلّي الخاطر، بعيدا عن المقالات التنظيرية النقدية التي لا يستوعبها بالتأكيد طالب في المرحلة المتوسطة.

Ad

بين أسطر حياة الشيخ الراحل الكثير مما يؤكد تميزه وأسبقيته لزمانه، إذ نجده منحازا للشعر وتأريخ الأماكن، منذ أوائل الأربعينيات من القرن المنصرم، حين كانت جزيرة العرب تمنح الأولوية للعلوم الشرعية، بل إن الوجاهة الاجتماعية تكمن في من يحفظ العلم الشرعي، ولكن ابن خميس صب كل جهده في دراسة الأدب، واستقصاء الأماكن، وما يرتبط بها من قصائد، حتى إن بعضهم قال: «لم يبق شبر في أرض الجزيرة لم تطأه قدما ابن خميس». هذا الاستقصاء الجغرافي لم يكن بحثا مجردا في الأتربة والهضاب، وإنما هو بحث لغوي وشعري، وتأريخ لقاطنيها وما يخلفونه من أثر.

وبحسب المصادر التي تؤرخ لحياته فإن ابن خميس التحق بالدراسة النظامية حين كان في الخامسة عشرة من عمره، وإنما كان قبل ذلك يثقف نفسه باجتهاد ذاتي، وحصل على الثانوية وهو ابن عشرين عاماً، لينطلق بعدها في إتمام تعليمه الجامعي.

يشي كل ما يُكتب عن الشيخ الراحل بأنه كان مستبقا لعصره وزمانه، بل إنه كان أوسع علما في الشعر والتاريخ من بعض معلميه في الجامعة، وكان ذا ذهن حاضر، وشخصية تكتسب الوقار من تلقاء ذاتها، الأمر الذي جعله يحوز ثقة القيادة في بلده، فألقيت إليه المسؤوليات الجسام واحدة تلو أخرى، ولكن ابن خميس لم يكن لينصرف عن تلقي العلم والتأليف، فبادر إلى طلب التقاعد من الوظيفة العامة، وهو لم يتجاوز 53 من عمره، ما يؤكد حرصه على التفرغ للكتابة والتأليف، فكان له ما أراد بعد أن أمد الله في عمره، وأغنى المكتبة العربية بعشرات الكتب، من بينها كتب مشهورة من قبيل «من القائل» وهو في أساسه برنامج إذاعي كان يجيب فيه على أسئلة المستمعين، على الطريقة ذاتها التي اشتهر فيها برنامج الأديب الراحل حسن الكرمي، في إذاعة «بي بي سي».

وللشيخ الراحل قصة أخرى مع «اليمامة» التي عشقها فألف الكتب الكثيرة: «تاريخ اليمامة» سبعة أجزاء، و»المجاز بين اليمامة والحجاز»، و»معجم اليمامة». وله كذلك مؤلف مهم بعنوان: «معجم رمال الجزيرة». تتلمذ ابن خميس في مقتبل حياته على شيوخ كلهم من علماء التفسير والشريعة، كالشيخ عبدالله المسعري، ومحمد متولي الشعراوي، ومناع القطان، إلا أن حب الأدب حين يسري في العروق يصعب التخلص منه، أو الحياد عنه.

حقق ابن خميس المعادلة الصعبة حين وازن بين العامية والفصحى في دراساته وبحثه، أدرك الشيخ بفطنة الأديب، ووعي الناقد أن في الأدب الشعبي فسحة لا يمكن الاستغناء عنها في ما يتعلق بالتأريخ للأماكن، وشعر الحكمة، وقصص العرب ورواياتهم في أرض الجزيرة، حين كانت هذه القصائد، ومروياتها الشعبية المرجع الوحيد لقصص بطولية، ورجالات وقبائل سطروا تاريخهم بين مقام وارتحال، تأريخ يجسد شظف العيش وسعة الحياة، وبين هذا وذاك الكثير من الحكمة، والمعارك وقصص الإغارات، و»اللجوء السياسي»، بلغة زماننا هذا، ولعل أشد ما يلفت الانتباهَ من هذا الشعرُ الغنيُّ بالحكمة. فهل تُرى يُعيد الباحثون النظر في التراث الشعبي والقصائد المتعلقة به؟ إنها ليست أدبا من الدرجة الثانية، بل هي حياة وتاريخ قائم بذاته.