في عام 2002م، أجرى العالم ريتشارد وايزمان، بحثاً حول النكتة التي ستكون أكثر إضحاكاً وقبولاً من الجمهور، ففازت- مع قليل من التصرف- النكتة التالية:

Ad

خرج شرلوك هولمز، وشريكه المخلص د. واطسون في رحلة برية للتنزه، وفي الليل بعد العشاء، خلدا إلى النوم... بعدها بساعات أفاق هولمز، فأيقظ الدكتور واطسون، قائلاً له: انظر إلى السماء، وأخبرني ماذا ترى؟ فقال واطسون: أرى ملايين النجوم. قال هولمز: وماذا تستنتج من ذلك؟ فقال واطسون: أستنتج أن هناك الملايين من المجرات، وأن فيها الملايين من الكواكب، وأن الله قادر عظيم، وأننا لسنا سوى شيء صغير لا يذكر أمام عظمة هذا الكون الكبير! فقال له هولمز: واطسون أيها الأحمق، لقد سُرقت خيمتنا!

لا أدري إن كانت هذه النكتة تستحق الفوز فعلا في بحث د. وايزمان، لكنها أضحكتني كثيراً شخصياً، ربما لأن دلالاتها حقيقية في واقعنا، فكثير من الناس يتعثرون في حياتهم، وربما يصلون إلى حد الفشل، لأنهم يغرقون في الجزئيات، ويغوصون في التفاصيل إلى حد الاختناق، ويتأخرون في النظر إلى الصورة العامة، حتى يفوتهم اكتشاف الحكمة البعيدة في الأمور.

وهذا الأمر، أعني الإغراق في الجزئيات والتفاصيل، ينقلني إلى التفكر في حال أولئك المركزيين الذين يحرصون على مرور كل الأمور بتفصيلات تفصيلاتها من خلالهم، وهو الأمر الذي صرنا نراه سلوكاً معتاداً من كثير ممن هم حولنا في الحياة والعمل، فهناك الكثير من الذين لا يشعرون بالأمان والثقة، أو بسلطتهم أو قيمتهم إلا بمرور جميع الأمور عبرهم، وهو ما يذكرني بحكاية سلطان الأباريق الشهيرة، حيث يحكى أن رجلاً كانت وظيفته ومسؤوليته الإشراف على الأباريق لحمام عمومي، والتأكد من أنها مليئة بالماء، بحيث يأتي الشخص ويأخذ أحد الأباريق، ويقضي حاجته، ثم يرجع الإبريق إلى صاحبنا الذي يقوم بملئه للشخص التالي وهكذا، وفي إحدى المرات جاء شخص، وكان مستعجلاً، فخطف إبريقا بصورة سريعة وانطلق نحو دورة المياه، فصرخ به مسؤول الأباريق وأمره بالعودة إليه، وأمره بأن يترك الإبريق الذي في يده ويأخذ الآخر الذي بجانبه، فامتثل الرجل لذلك، وحين عاد كي يسلم الإبريق، سأله: لماذا أمرتني بالعودة وأخذ إبريق آخر، مع أنه لا فرق بين الأباريق؟ فقال مسؤول الأباريق بتعجب: إذن ما عملي هنا؟!

لكننا ندرك جميعاً أن أمثال هؤلاء لا يصلون بعيداً في أعمالهم وحياتهم، لأنهم لا يدركون الصورة الكلية، ولا يبلغون المرامي البعيدة، وقد عملت منذ سنوات مع مدير كبير كان مركزياً إلى حد لا يصدق، حيث كان هو بنفسه من يقوم بالتوقيع على تصاريح منح الهواتف النقالة للموظفين المستحقين، وهو كذلك من يوقع الاتفاقيات والعقود المليونية، ولهذا كانت تتكدس الأوراق والملفات على مكتبه بالعشرات لأيامٍ طويلة حتى يفرغ من مراجعتها. وبالطبع، فخلال سنوات قليلة، ولا عجب في ذلك، كان الرجل قد تم صرفه عن موقعه هذا!

الإنسان المسيطر فعلاً، والواثق من قدراته، هو ذلك الإنسان القادر على التفويض وتسليم الصلاحيات وتجهيز من يتبعون له أو من هم حوله للقيام بهذا الدور بكل ثقة وأريحية، مع جسارته وشجاعته في ذات الوقت لتحمل المسؤولية والوقوف في وجه المساءلة، وأما ذاك الذي لا يثق بأحد سوى نفسه، فحتى لو صمد واستمر لبعض الوقت قادراً على متابعة كل شيء بمركزية، فإنه سرعان ما سيسقط تحت ضغط العمل والالتزامات والمسؤوليات، وسرعان ما سينهار وينكشف!

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة