يخطئ من يعتقد أن الدعوة إلى التقدم والتجديد تعني الخروج من كل الموروث الثقافي ومن كل المعاني الدينية أو التوجهات الفكرية التي يعتنقها المجتمع. الموروث الذي نحتاج هو ذلك الذي يثرينا ولا يكبّلنا، حين نختار من التراث ما ينهض بنا. وقد قام بعض المفكرين العرب بإحياء ذلك التراث، محاولين جعله منتجاً خلاقاً، المرحوم محمد عابد الجابري له كلمة بليغة في هذه الجزئية حين قال: «يجب أن ننتقل من كوننا أمة تراثية، إلى أن نكون أمةً لها تراث». أما دعوة طه حسين أن نأخذ الغرب كله بعجره وبجره، وبأدوائه وأدويته، فهذه صرخة أكثر من كونها فكرة، لأن التقدم بمعزل عن الموروث المنتج والمحفز على الإبداع يعتبر قفزة ناقصة. بعض الدول نجحت في نموذجها من دون أن يكون لها إرث أصلاً مثل «سنغافورة». أما الدولتان العظيمتان المدججتان بالإرث والتقدم معاً فهما: الصين، واليابان. انطلقوا في تقدمهم لا من الانهيار الأعمى وهدم الماضي واستفزاز المجتمعات بموروثاتها المحببة، وإنما بالمشي المركز نحو مشروع متقدم ومؤثر. في كتابه: «الصينيون المعاصرون- التقدم نحو المستقبل انطلاقاً من الماضي» ذي الجزأين، يتحدث الباحث الرائع ووبن عن نهضة الصين والثورة التي قامت بها في مجال المعرفة والعلوم. وفي العنوان ما يشير إلى أن الماضي لم يكن مطموساً، وإنما حضر لأنه جزء من خطة تطوير المستقبل. في المبحث الثالث من الجزء الثاني في الكتاب يقول: «ظلت الصين قبل منتصف القرن التاسع عشر قابعةً في عصر ما قبل العلوم، وبعد منتصف القرن التاسع عشر بدأت العلوم والتكنولوجيا المتقدمة الغربية الانتشار في الصين بصورة مطردة، ولكن كان ذلك الانتشار في البداية سطحياً ومبعثراً وتعرض للمقاومة العنيفة والإقصاء من جانب المفاهيم الثقافية التقليدية الصينية وأسلوب التفكير التقليدي، ولذا لم تؤثر تلك المفاهيم وذلك الأسلوب في تغيير التفكير في المجتمع بصورةٍ كافية». لكن ما بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين وصولاً إلى القرن الحادي والعشرين انتقل المجتمع الصيني نقلاتٍ مهولة في مجالات نشر الفكر التحليلي والمنطقي، وانتشار النظريات الحديثة بين الناس العاديين، واستثمار العلوم والمعارف في الصناعة والتكنولوجيا، وصارت الصين التنين الذي لا يمكن لأحدٍ في العالم إلا ويبهره ويتأمل بما وصل إليه كل لحظة، وكل حين! كان التغيير الثقافي هو التحدي الأكبر لدى الصينيين، كيف يمكن للمجتمع أن يغادر الأفكار القديمة ويأخذ أفكاراً جديدة، من دون أن يتخلى عن الموروث المحترم، والطقوس الدينية، والمبادئ الأخلاقية والاجتماعية. وقصة تحول الصينيين من ثقافة متحجرة إلى أخرى متطورة مغرية للقراءة، أكتفي بنقل من «ووبن» حيث قال: «تعتبر تحولات التحديث بمنزلة التغيير الكبير للثقافة الاجتماعية داخل أوضاع حياة الصينيين، ولم يكن هذا التغيير الثقافي الاجتماعي جزئياً وفرعياً، بل كان التغيير الكامل والشامل، كما كان بمنزلة التحول والانتقال من تكوينٍ ثقافي اجتماعي ما، إلى تكوينٍ ثقافي اجتماعي آخر، ومن المؤكد يؤدي التغيير الكبير في أوضاع الحياة إلى التغيير في الشخصية الذاتية للصينيين ثم يكون هناك التطور من الشخصية المتسلطة التقليدية، إلى الشخصية الذاتية الحديثة». عظمة الصينيين أنهم وجدوا شفرتهم الخاصة لصناعة تطورهم، ونحن العرب ما زلنا نحلل الشفرات، نتصارع على كل مشروع تحديثي، وحين تأتي بعض الدول محاولةً زرع تطوير نابع من إرثها القومي يأتي من يصف ذلك التطور بالناقص، وحين تأتي تجارب أخرى في فتح الأسواق وتشجيع البناء يصفها البعض بـ»الفقاعة». الصينيون العظماء أدركوا أن التقدم صفة بشرية كونية وبحثوا في مجتمعهم واكتشفوا طريقة التقدم الخاصة، التقدم انطلاقاً من الماضي كما يصفها «ووبن». ليتنا بعد هذه السنين من الصراعات نجد شفرات تقدمنا نحن... معاشر العرب!
Ad