الامبريالية المعدلة

نشر في 24-03-2011
آخر تحديث 24-03-2011 | 00:01
إن التاريخ لا يُصدِر أحكاماً نهائية، وكل تحول رئيسي يطرأ على الأحداث والقوى يجلب معه موضوعات جديدة للمناقشة وتفسيرات جديدة.
 بروجيكت سنديكيت قبل خمسين عاما، ومع تسارع أحداث الاستقلال من الاستعمار، لم يكن من المتصور أن نسمع من يمتدح الإمبريالية (الاستعمارية)، حتى أن الاستعماريين السابقين، ورعاياهم الذين حصلوا على حريتهم، كانوا ينظرون إلى الإمبريالية نظرة ازدراء. وأضيفت إلى مناهج تعليم أطفال المدارس فصولاً عن فظائع الاستعمار، وكيف استغل الشعوب التي قهرها، ولم يتحدث أحد عن أي فوائد ربما جلبها الاستعمار.

ثم في ثمانينيات القرن العشرين، جاء التاريخ التنقيحي، ولم يكن الأمر أن اتساع المسافة الزمنية يضفي لمسة من السحر على أي وجهة نظر فحسب، فقد نجح الغرب- القسم الأنجلو أميركي منه في الأساس- في استعادة بعض من كبريائه وجرأته تحت زعامة الرئيس الأميركي رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر. وكان هناك من الدلائل المتنامية ما يؤكد فشل أنظمة ما بعد الاستعمار وعنفها وفسادها، خصوصاً في إفريقيا.

ولكن الحدث الحاسم بالنسبة إلى أنصار التنقيح والتعديل كان انهيار الإمبراطورية السوفياتية، وهو الحدث الذي لم يجعل من الولايات المتحدة صاحبة السلطة العليا الوحيدة على مستوى العالم فحسب، بل لقد بدا الأمر وكأن ذلك الحدث، خصوصاً في نظر أهل الفكر الأكثر فلسفية، يبرئ الحضارة الغربية وقيمها ويدافع عنها ضد كل الحضارات والقيم الأخرى. ومع توسيع الاتحاد الأوروبي لحدوده ليشمل العديد من الدول الشيوعية سابقا، أصبح الغرب مرة أخرى، ولو لفترة وجيزة، تجسيداً لفكر عالمي ملتزم ومجهز لنشر قيمه إلى الأقسام التي لاتزال تعيش في الظلام من العالم. ولقد شهد فرانسيس فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ والرجل الأخير» على هذا المعنى من الانتصار والواجب التاريخي. ولقد مهدت هذه الحالة الطريق أمام موجة جديدة من الإمبريالية (ولو أن العزوف عن استخدام هذه الكلمة ظل باقياً). وكان من المحتم أن يؤثر هذا في تفسيرات الإمبريالية القديمة، التي أصبحنا الآن نستمع إلى من يشيد بها لنشرها التقدم الاقتصادي، وسيادة القانون، والعلوم والتكنولوجيا، إلى بلدان ما كانت لتستفيد من كل ذلك لولا الاستعمار.

وفي طليعة الجيل الجديد من المؤرخين التنقيحيين كان نيال فيرغسون من جامعة هارفارد، الذي يذاع برنامجه التلفزيوني الذي يستند إلى كتابه الجديد «الحضارة: الغرب وبقية العالم» في بريطانيا الآن. في الحلقة الأولى من برنامجه يظهر فيرغسون وسط مجموعة من الآثار الصينية الرائعة من عهد أسرة مينغ، التي كانت في القرن الخامس عشر صاحبة الحضارة الأعظم بلا منازع في ذلك العصر، والتي وصلت بعثاتها البحرية إلى سواحل إفريقيا، وبعد ذلك بدأ انحدار الصين (وكل «البقية») وصعود الغرب.

ويلخص فيرغسون بذكاء أسباب هذا التراجع في ستة «تطبيقات قاتلة»؛ المنافسة، والعلوم، وحقوق الملكية، والطب، والمجتمع الاستهلاكي، وأخلاقيات العمل. وعلى خلفية من هذه الأدوات- وهي المنتجات التي تفردت بها الحضارة الغربية- لم يعد لبقية العالم أي فرصة. ومن هذا المنظور، فإن الإمبريالية القديمة والجديدة على السواء كانت بمنزلة تأثير خيري، لأنها كانت الوسيلة لنشر هذه التطبيقات إلى بقية أرجاء العالم، وبالتالي تمكين الناس من الاستمتاع بثمرات التقدم الذي كان حتى ذلك الوقت مقتصراً على بضع دول غربية.

ومن المفهوم ألا تحظى هذه الفرضية باستحسان عالمي، فقد سارع المؤرخ أليكس فون تونزلمان إلى اتهام فيرغسون بتجاهل كل فظائع الإمبريالية وإخراجها من المعادلة: الحرب السوداء في أستراليا، والإبادة الجماعية الألمانية في ناميبيا، وعمليات الإبادة البلجيكية في الكونغو، ومذبحة أميرستار، ومجاعة البنغال، ومجاعة البطاطا الإيرلندية، وغيرها ذلك الكثير.

ولكن هذا كان خط الهجوم الأضعف، فقد وصف إدوارد غيبون التاريخ ذات مرة باعتباره أفضل قليلاً من سجل من «الجرائم والحماقات والكوارث والنكبات الإنسانية»، ولا شك أن الإمبريالية أضافت حصتها إلى كل ذلك، ولكن السؤال هنا هو ما إذا كانت الإمبريالية قد وفرت أيضاً، من خلال «مكر العقل» لهيغل، السبيل إلى الفرار من تلك الفظائع. حتى أن ماركس برر الحكم البريطاني للهند على هذا الأساس، ويستطيع فيرغسون أيضاً أن يسوق حجة سليمة لدعم اقتراح من هذا القبيل.

إن نقطة الضعف الأكثر خطورة في طرح فيرغسون تتلخص في افتقاره إلى التعاطف مع الحضارات التي تجاهلها باعتبارها «البقية»، وهو ما يشير أيضاً إلى أخطر مواطن القصور في القضية التنقيحية، فمن الواضح أن «انتصار الغرب» الذي أعقب انهيار الشيوعية في أوروبا لم يكن «نهاية التاريخ»، ولا شك أن فيرغسون يعلم أن الموضوع الرئيس للمناقشة في الشؤون الدولية في أيامنا هذه يتعلق بصعود الصين، وآسيا بصورة أكثر عموماً، فضلاً عن الحراك الإسلامي. وبطبيعة الحال، قد يفضل الصينيون الحديث عن «العودة» وليس «الصعود»، والإشارة إلى التعددية «المتناغمة» للمستقبل، ولكن «الصعود» هو ما يجسد نظرة أغلب الناس لتاريخ الصين الحديث، وفي التاريخ يرتبط صعود البعض عادة بانحدار آخرين. أو بعبارة أخرى، ربما نرتد الآن إلى هذا النمط الدوري الذي افترض المؤرخون أنه بديهي قبل أن يزرع في أنفسهم صعود الغرب غير القابل للتراجع ظاهرياً وجهة نظر قائمة على التقدم الخطي نحو قدر أعظم من العقل والحرية.

من الواضح أن أوروبا أصبحت في انحدار، سياسياً وثقافياً، رغم أن أغلب الأوروبيين، الذين أعمتهم مستويات المعيشة المرتفعة وادعاءات ساستهم العاجزين، سعداء بإضفاء صبغة التقدم على كل ذلك. والواقع أن المدخرات الصينية تؤمّن وتتعهد بتمويل قدر كبير من المهمة الحضارية الأميركية التي يشيد بها فيرغسون. ويبدو النمط هنا واضحاً: فالغرب يفقد الديناميكية في حين تكتسبها «البقية».

إن السنوات المتبقية من هذا القرن ستظهر إلى أي شيء قد ينتهي هذا التحول. وفي اللحظة الراهنة فقد أغلبنا الحبكة التاريخية. فمن الممكن على سبيل المثال أن نتخيل «عالماً غربياً» (يوظف تطبيقات فيرغسون القاتلة) حيث لا يظل الغرب الفعلي يشكل العامل المهيمن: حيث تمرر أميركا الشعلة ببساطة إلى الصين، كما مررتها بريطانيا ذات يوم لأميركا.

ولكن يبدو لي أنه من غير المرجح على الإطلاق أن تستحوذ الصين والهند و»البقية» ببساطة على القيم الغربية بالجملة، لأن هذا قد يُعَد بمنزلة التخلي عن أي قيمة تحملها حضاراتهم، ومن المحتم أن يأتي تحول القوة والثروة من الغرب إلى بقية العالم مصحوباً ببعض التركيبات والتوفيقات بين الطرفين. والسؤال الوحيد الآن هو ما إذا كانت هذه العملية ستتم بطريقة سلمية.

* روبرت سكيدلسكي، عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ فخري لمادة الاقتصاد السياسي بجامعة وارويك.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top