... عن الأردن
هذه الحقيقة يجب أن تقال الآن, خصوصاً للشبان المتحمسين بتأثيرات ما يجري في الإقليم وما تضخُّه وسائل الإعلام «الدولية» المتحيزة والمسخَّرة لخدمة «لعبة الأمم الجديدة», فالأردن عرف تجربة الديمقراطية الحقيقية في عام 1956 حيث تمتعت كل الأحزاب من الحزب الشيوعي إلى حزب البعث إلى الحزب الوطني إلى الإخوان المسلمين بحرية العمل وحرية إصدار الصحف وإنشاء المقرات، وكل هذا رغم أن الحرب الباردة في تلك الفترة كانت في ذروتها، وكان الشيوعيون يعتبرون في هذه المنطقة بضاعة محرَّمة وممنوعة أكثر من منع المخدرات.كل هذه الأحزاب شاركت في الانتخابات التشريعية، ومُثِّل الحزب الشيوعي رسمياً في البرلمان، وكذلك حزب البعث الذي شارك في حكومة الأكثرية التي شكلها سليمان النابلسي, رحمه الله, بإعطائه حقيبة وزارة الخارجية ممثلاً في المرحوم عبدالله البرماوي, وكان يومها صلاح البيطار الذي هو ثاني مؤسسي حزب البعث إلى جانب ميشيل عفلق يشغل موقع وزير الخارجية في سورية, وكانت التجمعات مباحة والتظاهرات مسموحة.لقد كانت أول تجربة ديمقراطية حقيقية في الوطن العربي كله إذْ للمرة الأولى لا يتم التحفظ على حزب واحد, مع أن المرحلة كانت مرحلة الاستقطاب وصراع المعسكرات, وإذْ للمرة الأولى يشكل الحزب الفائز بالأكثرية الحكومة، كما يشاء وبدون أي تدخل... إنها كانت تجربة عظيمة وواعدة ليس للأردن فقط وإنما للمنطقة العربية كلها، لكن للأسف فإن بيئة الانقلابات العسكرية قد أجهضت تلك التجربة، حيث بدل أن تركز هذه الأحزاب على حماية تلك المحاولة المبكرة اندفعت نحو جنازير الدبابات وأخذت تتنافس على الوصول إلى ثكنات الجيش فكانت النتيجة أن عاد هذا البلد إلى حظيرته العربية فخسر الشعب الأردني من تطوره السياسي والحضاري اثنين وثلاثين عاماً من عام 1957 حتى عام 1989.
في عام 1989 التقط الملك حسين, أمطر الله تربته بشآبيب رحمته, اللحظة التاريخية وأدرك في ذلك الوقت المبكر أن هذا الشرق الأوسط مقبل على تغيُّرات سياسية زلزالية كاسحة فكان أن بدأت العودة إلى تجربة منتصف خمسينيات القرن الماضي وكانت هذه المسيرة التي حققت انجازات هامة وواعدة والتي أيضاً اصطدمت بصعوبات حقيقية من بينها انهيار معادلة الثنائية القطبية بانهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي واحتلال دولة الكويت وما ترتب على ذلك من تطورات كانت ذروتها غزو العراق واحتلاله ثم تنامي ظاهرة الإرهاب بعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر 2001 ثم الأزمة الاقتصادية العالمية الطاحنة المستمرة تأثيراتها حتى الآن. وهنا فإنه لابد من الاعتراف بأن بعض الحكومات, التي تعاقبت على السلطة في الأعوام العشرة الأخيرة, لم تكن بمستوى هذا التحول الذي بدأ في عام 1989 والذي جاء استكمالاً لتجربة منتصف خمسينيات القرن الماضي العظيمة حقاً انها انشغلت بقضايا ثانوية على حساب هذه القضية الرئيسية، وإنَّ ما زاد الطين بلَّة كما يقال أن ظاهرة الشبان, الذين ظنوا أن بإمكانهم تحويل دولة من العالم الثالث لها تجربتها ولها قيمها ولها ظروفها الخاصة إلى شركة مساهمة, قد قفزت لبعض الوقت إلى الواجهة فكانت تلك المحاولة البائسة، وكانت كل الإخفاقات التي ترتبت عليها على حساب الإصلاح وعملية التحول نحو الديمقراطية.ولهذا فإنه بالإمكان تأكيد أن ما جرى في تونس وما جرى في مصر لا يمكن أن يجري في الأردن بأي شكل من الأشكال، فالواقع هنا يختلف عن الواقع في هذين البلدين الشقيقين، سواء من حيث طبيعة النظام أو من حيث التركيبة الديموغرافية والمكونات الاجتماعية وواقع الأحزاب والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني الأخرى، لكن حقيقة ان الأحداث التونسية والمصرية قد نبهت الأردنيين, على صعيد الشعب وعلى صعيد القيادة وكل مواقع المسؤولية, إلى أن المسيرة التي بدأت في عام 1989 قد رافقها بعض الأخطاء وأنه لابد من تدارك الأمور بسرعة والقيام بمراجعة حقيقية لتصحيح المسار وللمضي بخطى ثابتة, بعيدة عن الارتباك, نحو الهدف المنشود والذي هو تحول هذا البلد إلى دولة ديمقراطية عصرية محكومة بالأنظمة والقوانين لا مكان فيها للفساد ويتمتع شعبها بما تتمتع به شعوب الدول المتقدمة.كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراءيمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة