ذكرت في مقالتي السابقة أن فوز قطر بالاستحقاق المونديالي، هو بمنزلة "شهادة تقدير" من المجتمع الدولي جميعاً– وليس من اللجنة التنفيذية للفيفا فسحب– لدور قطر الحيوي في تدعيم السلام والاستقرار والتقارب بين مختلف الشعوب والحضارات والأديان والثقافات، وهي نفس المعاني والقيم التي تسعى "الفيفا" إلى تعزيزها عبر نشر كرة القدم في مختلف مناطق العالم.
ويبدو أن هؤلاء الذين انتقدوا "الفيفا" ورددوا أسطوانة الفساد والرشاوى وشراء الأصوات لأنها رجحت كفة روسيا في استضافة مونديال 2018، كما رجحت كفة قطر في استضافة مونديال 2022 لم يكونوا مستوعبين تماماً "رسالة الفيفا"، ومما يؤسف له أن تنزلق الصحف الإنكليزية إلى ترويج اتهامات بأن هناك فساداً شاب عمليات التصويت، وأموالاً دفعت من تحت الطاولة من غير أي سند أو بيّنة، وفي مسلك يفتقد إلى الحد الأدنى من الروح الرياضية. إن عادة الخاسر أن يتهم الجميع ولا يتهم نفسه ولا يراجع مسلكه ونقاط ضعفه، هؤلاء عندما أبعدتهم اللجنة شنوا حملة على رئيس الفيفا "بلاتر" واتهموه بالتواطؤ، وكما قالت إحدى الصحف: إن "بلاتر" ساعد في اختيار هاتين الدولتين لأنه يحتاج إلى إعادة ترشيحه للاستمرار في منصبه إلى أصوات جمهوريات الاتحاد الروسي، وبالنسبة إلى قطر لأنه أراد أن يتجنب منافسه محمد بن همام القطري وأكثر منافسيه على منصب رئيس "الفيفا"! هذا كله هراء وتصور ساذج لأن صاحب هذا الاتهام يعتقد أن "الفيفا" ولجنتها في جيب بلاتر الذي يتحكم بأعضائها حسب أهوائه وميوله، كما يتجاهل النظام الذي يحكم عمليات التصويت السرية التي يقوم بها أعضاء اللجنة التنفيذية الذين يعدون الرموز الكبيرة المعنية بهذه اللعبة المحبوبة شعبياً. هؤلاء لا سلطان لأحد عليهم غير ضمائرهم الحرة ومصلحة كرة القدم بالدرجة الأولى، لوكان يمكن رشوة هؤلاء أو شراء ضمائرهم لكانت الولايات المتحدة وبريطانيا أقدر من روسيا وقطر، ولو كان هدف "الفيفا" الاستفادة المالية– كما قيل من خلال منح شرف تنظيم المونديال لإحدى الدول الغنية في الشرق الأوسط– لكان الأجدى الاتجاه إلى الولايات المتحدة وليس إلى قطر كما قال بلاتر، فعمليات التصويت السرية ليست بهذه الهشاشة حتى تخترق من قبل الدول الغنية. ولهذا تصدى الأمين العام لـ"الفيفا" جيروم فالكه، لرد هذه المزاعم، قائلاً: "هناك دائماً من يتحدث عن قصص قديمة منذ التسعينيات حول الرشوة، وهذا الأمر لا يعنينا، ونظام التصويت جرى تحت إشراف وتدقيق من جانب إحدى الشركات العالمية في هذا المجال ودون الإفصاح عن الأصوات التي ذهبت لكل دولة، للحفاظ على السرية، التصويت تم بشكل ممتاز وبشفافية مطلقة، وذهب التنظيم لمن يستحقه بحسب رأي أعضاء اللجنة، و"الفيفا" كان يسعى إلى تطوير كرة القدم في مناطق جديدة من العالم". انشغال الصحافة الإنكليزية على امتداد الأيام الماضية بترويج إشاعات الفساد والرشوة والتواطؤ، دليل إفلاس يكشف الوجه الاستعلائي لهؤلاء الذين لا يتحملون الهزيمة بروح رياضية، وكما قال بلاتر "أنا رئيس الفيفا، سعيد بالقرار الذي اتخذه المكتب التنفيذي وبالنتائج بفوز روسيا وقطر في استضافة كأس العالم لكرة القدم، لقد تلقينا التهاني بعد إعلان النتائج ممن يحبون كرة القدم، أما الذين يشعرون بأنه أفضل من الآخرين فينتقدون ويهاجمون، وهذا طبيعي". إنها إذن "روح الغطرسة والاستعلاء" لا غير، ولكن ما سر ثورة الإنكليز على "الفيفا"، ولماذا كانت صدمتهم قوية؟! كشف بلاتر عن هذا السر فقال: "إن فريق العرض الإنكليزي، حصل على وعود بالتصويت لإنكلترا من أعضاء اللجنة التنفيذية للفيفا، لكن هؤلاء الأعضاء لم يلتزموا بوعودهم". ما معنى هذا الكلام؟ معناه أن إنكلترا هي التي يجب أن تهتم بالتدخل والضغط والإفساد وشراء الأصوات، وهؤلاء الأعضاء لم يجدوا أمام تلك الضغوط إلا أن يسايروها "ظاهراً" ولكن في لحظة الحقيقة، في وقت التصويت، حكّموا ضمائرهم المهنية وصوّتوا للأفضل في النهاية. أتفهم غضب البريطانيين كونهم خدعوا أو هكذا ظنوا، ولكن ما لا أستوعبه أن ينزلق الرئيس الأميركي باراك أوباما، وهو رئيس دولة عظمى، لينتقد "الفيفا"، ويقول: "إن الفيفا أخطأ بمنح قطر حق تنظيم كأس العالم وليس الولايات المتحدة"، كيف لرئيس دولة عظمى معروف عنه التروي وعدم المسارعة في إصدار الأحكام من غير دليل أن يصف قراراً تم بأغلبية "14" صوتاً، بأنه قرار خاطئ؟ ألا يؤمن بديمقراطية القرار؟! ولماذا لا يتقبل النتيجة بروح رياضية وهو الرياضي؟! وأين تودده للمسلمين وهو الذي ملأ الدنيا خطباً في مدح الإسلام والمسلمين حتى ظنه بعض شعبه مسلماً؟! لو أنصف لأدرك أن تكريم قطر بهذا الاستحقاق المونديالي فيه تكريم لأكثر من مليار مسلم، وفيه توسيع لرقعة وحدود كرة القدم، لماذا يريدها أن تكون مداولة بين الكبار منهم؟! لا أرى عذراً لأوباما إلا أن يكون أراد به الاستهلاك المحلي وصد هجوم خصومه عليه عبر إظهار أن فريقه عمل ما بوسعه، لكن الآخرين أخطؤوا ولم يقدروا جهوده، وكأنه محاولة لتبرئة الذات من المسؤولية، ولذلك سارعت وزيرة خارجيته هيلاري كلنتون إلى تلطيف الجو عندما وصلت إلى البحرين، إذ قالت في مستهل كلمتها في افتتاح منتدى "حوار المنامة": "اسمحوا لي بتهنئة قطر على انتصارها الأخير، الحصول على استضافة كأس العالم 2022"، وأضافت "أن استضافة كأس العالم هي إثبات إضافي بأن قطر والمنطقة في طليعة عالم الأعمال المهمة"، في إشارة إلى أن قطر أصبحت الدولة العربية الأولى في التاريخ التي تحظى بشرف استضافة كأس العالم بتفوقها على الولايات المتحدة الأميركية بنيلها (14) صوتاً مقابل (8) أصوات لأميركا.لا علينا من غضب الخاسرين ولا يؤثر فينا اتهاماتهم المرسلة، فإرضاء الجميع عسير المنال، لكن الذي يهمنا أن معظم شعوب دول العالم سعيدة بقرار "الفيفا"، والأسرة الرياضية في العالم مؤيدة للنتائج وكل الدول العربية والإسلامية والأسر الرياضية في مختلف دول المعمورة هنأت قطر بهذا الإنجاز، وقد غمرت الفرحة الشوارع الخليجية والعربية، وعمت الأفراح شوارع الدوحة التي تعيش أجواءً احتفالية بديعة وممتدة إلى اليوم الوطني للبلاد الذي يصادف 18 ديسمبر. هنيئاً لقطر أميراً وحكومة وشعباً، وهنيئاً لدول مجلس التعاون وكل العرب والمسلمين، هذا الإنجاز الذي كان حلماً فتحقق، بعبقرية القائد وبعزيمة الرجال؟ هذا يدفعنا إلى التساؤل عن الدروس المستفادة من هذا الحدث التاريخي؟الدروس المستفادة من الإنجاز التاريخي القطري عديدة، لعل أبرزها:1 - إن مكانة الدولة أو دورها الدولي، لا يقاس بمساحتها الجغرافية ولا بعدد سكانها ولكن بالسياسات الناضجة والخطط الصحيحة والسلوك الناجح والعلاقات المتوازنة بمختلف دول العالم والإنجازات التي تخدم عمليات السلام والاستقرار والتنمية.2 - إن الرؤية الاستراتيجية البعيدة وتحديد الأهداف بدقة والإدارة القوية مع الإدارة السليمة، واعتماد الوسائل المناسبة لبلوغ الأهداف وعدم اهمال أي وسيلة شرعية للوصل إلى الغايات كل ذلك كفيل لتحقيق الأهداف حتى في مواجهة الدول الكبرى التي تمتلك إمكانات أكبر.3 - إن الإيمان بالله تعالى والثقة بالذات والإنجاز الجيد والتطلع إلى المستقبل بآمال واعدة وعدم الاستسلام للدعوات التشاؤمية المحبطة التي تحاول تصوير العالم متآمرا على المسلمين والعرب، وأنه لا جدوى من أي مشروع عربي ناجح في مواجهة تآمر الدول الكبرى ضد العرب، هو رأسمال النجاح لأي دولة مهما صغرت إذا قبلت التحدي واستجمعت شروطه، فتجربة قطر تثبت أن النجاح ممكن مهما كانت العوائق والتحديات، وتجربة قطر تعيد الثقة إلى أنفسنا وإلى العرب جميعاً فهذه من المهمات القليلة التي يشعر العرب– كلهم– وليس قطر فحسب بأنهم قادرون على الإنجاز فيها في عالم الكبار، وهذه من الأمور النادرة التي يفرح العرب فيها جميعاً فرحاً حقيقياً.4 - إن العلم والتقنية، وسيلتان تخدمان دولنا في مواجهة المصاعب المناخية، فمن كان يصدق أن تتمكن قطر من إقناع "الفيفا" بقدرتها على التغلب على مصاعب الحر والرطوبة في شهر هو الأكثر حرارة بتوفير ملاعب ومناطق مكيفة؟! مع قدرة قطر على تذليل عقبة الحرارة إلا أن اقتراح النجم الألماني بيكنباور والذي أيده الفرنسي بلاتيني بأن يكون مونديال 2022 في يناير في حالة الأخذ به سيكون في مصلحة الجميع وسيهيئ أجواء بديعة أمام الفرق وزوار قطر.5 - إن الدرس القطري سيكون نموذجاً يحتذى به خليجياً وعربياً وإسلامياً.6 - تمنحنا هذه التجربة درساً مهماً في أهمية تأهيل القيادات العربية الشابة لإدارة الملفات الساخنة في أوطانها كما يقول سليمان الهتلان.7 - الاهتمام بالعنصر النسائي وإدماجه في خطط التنمية وتمكينه من المناصب القيادية كفيل بتغير صورتنا في الخارج وأمام المجتمع الدولي في كيفية تعاملنا مع نسائنا.* كاتب قطري
مقالات
دروس من قطر
20-12-2010