إن الامم المتحدة تعيش اليوم ما قد يبدو في بعض الأحيان وكأنه حياة مزدوجة، فمن ناحية ينتقدها المنتقدون لأنها لم تحل كل العلل التي يعانيها العالم، ومن ناحية أخرى تطالبها البلدان الأعضاء والشعوب في أنحاء العالم المختلفة ببذل المزيد من الجهد في المزيد من الأماكن، وهو الاتجاه الذي سيستمر في عام 2011.

Ad

وليس من الصعب أن ندرك السبب وراء هذه الانتقادات والمطالبات، فما علينا إلا أن نطالع الصحيفة أو نشغل جهاز التلفاز أو نتصفح مواقع الإنترنت حتى ندرك الحجم الهائل للمحنة التي يعيشها العالم، فالصراعات تشتعل في أنحاء العالم المختلفة، والكوارث الطبيعية تضربنا بقدر أعظم من الغضب والتواتر على نحو لم يسبق له مثيل.

وفوق كل هذا، فإننا نواجه جيلاً جديداً من التهديدات، التي لم نشهد لها مثيلاً في التاريخ، والتي تنتشر عبر الحدود وتخلف تأثيرات عالمية، ولا تستطيع أي دولة بمفردها، أو مجموعة منفردة من الدول مهما بلغت من قوة، أن تتعامل مع هذه التحديات، بل يتعين علينا جميعاً أن نعمل معاً- في قضية مشتركة ومن أجل التوصل إلى حلول مشتركة- من أجل التصدي لتحديات مثل تغير المناخ، والفقر، ونزع السلاح النووي.

ولكن هناك شكوك عميقة تحيط بقدرتنا على تحقيق هذه الغاية، إن العالم يتطلع إلى الأمم المتحدة على نحو غير مسبوق، ورغم ذلك فإن الرأي السائد هو أننا لا نرقى إلى قدر هذه المهمة، فالمشاكل بالغة التعقيد، والموارد شحيحة للغاية، وحتى الأمم المتحدة ذاتها تبدو وكأنها منقسمة فيما يتصل بإحداث هذا الفارق البالغ الأهمية.

بيد أن الرأي السائد خطأ؛ بل الأسوأ من ذلك أنه خطير، وذلك لأننا رأينا جميعاً كيف قد تنتشر الآراء السائدة بسرعة وكيف قد تشوه الحقائق ثم تصبح راسخة كالإسمنت.

على سبيل المثال، قبل أربعة أعوام، حين توليت منصبي، كان عدد الزعماء العالميين الذين يعرفون القدر الكافي عن تغير المناخ لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة- رغم أن تغير المناخ يشكل التحدي الأعظم الذي يواجهنا في عصرنا الحديث، والذي نشهد آثاره كل يوم وفي كل مكان من حولنا- واليوم انتقلت قضية تغير المناخ إلى رأس أجندتنا العالمية.

ولكن لا بد أن نكون في غاية الوضوح هنا: لقد كان الطريق وعراً وبالغ الصعوبة، ففي شهر ديسمبر 2009، تحدث زعماء العالم في كوبنهاغن إلى حلول الليل، وخرجوا طبقاً للرأي السائد بلا شيء تقريباً، ولكن الحقيقة هي أننا على الرغم من عدم توصلنا إلى إبرام معاهدة شاملة وملزمة قانوناً، ومن شأنها أن تنقلنا إلى عصر من الازدهار المستدام المنخفض الكربون، كما كنا نتمنى، فإن كوبنهاغن شهدت إنجازات ضخمة.

فللمرة الأولى على الإطلاق، اعترفت البلدان المتقدمة والنامية بمسؤوليتها عن الحد من الانبعاثات الغازية المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري العالمي، واتفقت على هدف الحد من ارتفاع درجات الحرارة العالمية بما لا يتجاوز درجتين مئويتين، وللمرة الأولى على الإطلاق، تبذل بلدان العالم التعهدات بتمويل جهود التخفيف والتكيف: 30 مليار دولار أميركي على مدى السنوات الثلاث المقبلة لتمويل البداية السريعة، و100 مليار دولار سنوياً بحلول عام 2020.

الدرس المستفاد هنا هو أننا لا ينبغي لنا أن نحلم بتحقيق تقدم خارق بين عشية وضحاها، أو نسمح لأنفسنا بالوقوع في اليأس إذا غاب التقدم الفوري، وبدلاً من ذلك، دعونا نبنِ على العديد من خطوات التقدم البسيطة- عن طريق حشد الدعم، وخلق تحالفات واسعة النطاق، والتفكير في إنشاء شبكة تتألف من أجزاء متحركة وقضايا معقدة- لأن هذا من شأنه أن يمهد السبيل لتحقيق التقدم الحقيقي في الغد.

إن العمل الجماعي لم يكن سهلاً قط، ولكنه لم يكن قط أشد أهمية من وقتنا هذا من أجل تحقيق أهداف الأمم المتحدة الإنمائية للألفية، التي تشكل المخطط العالمي الأولي للقضاء على الفقر المدقع، وقد ينبئكم الرأي السائد بأن الأهداف الإنمائية للألفية- الحد من الفقر والجوع، وتحسين صحة الأمهات والأطفال، ومكافحة مرض الإيدز، وزيادة القدرة على الوصول إلى التعليم، وحماية البيئة، وصياغة شراكة عالمية للتنمية- غير قابلة للتحقيق ببساطة.

والواقع أننا أصبحنا الآن قادرين على السيطرة على الأمراض- شلل الأطفال والملاريا والإيدز- بشكل أفضل من أي وقت مضى، هذا فضلاً عن الاستثمارات الجديدة الكبرى في صحة النساء والأطفال التي تشكل المفتاح إلى إحراز التقدم في العديد من المجالات الأخرى.

ومع ذلك فإن الحكمة التقليدية فيما يتصل بقضايا مثل تغير المناخ، والفقر، وغير ذلك من القضايا، هي أن الأمم المتحدة لا بد أن تتخلى عن مسؤولياتها لمجموعة العشرين، ولكن مجموعة العشرين G20 في حد ذاتها ليست الحل. فعلى الرغم من المناقشة المضنية حول قضايا العملة واختلال التوازن التجاري في إطار قمة مجموعة العشرين التي استضافتها مدينة سيول في شهر نوفمبر، فإن المنطقة الوحيدة التي تم الاتفاق عليها في ما يتصل بإحدى القضايا على أجندة مجموعة العشرين كانت التنمية الاقتصادية. فمن منطلق إدراكهم وتسليمهم بأن التعافي العالمي يعتمد على الأسواق الناشئة- أو العالم النامي- اتفق زعماء مجموعة العشرين على تبني الاستثمارات التي تهدف إلى انتشال أشد الناس ضعفاً من براثن الفقر.

ولهذا السبب تقبل زعماء مجموعة العشرين الحاجة إلى العمل بشكل وثيق مع الأمم المتحدة، فهي المنظمة الأصلح للتعامل مع قضايا التنمية، والآن تبحث مجموعة العشرين والأمم المتحدة عن سبل جديدة للعمل معاً على نحو بنّاء، ليس كمتنافسيّن، بل كشريكيّن، وهذا هو ما يجب أن يكون.

قبل أربعين عاماً، استحضر رجل الدولة الأميركي العظيم دين أتشيسون ما شعر به من إثارة وابتهاج حين ساعد في بناء نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولقد أطلق على مذكراته «كنت حاضراً وقت الخلق».

واليوم نجد أنفسنا في لحظة مثيرة بنفس القدر، وليست أقل أهمية في ما يتصل بمستقبل البشرية. فنحن أيضاً نحضر الآن عملية خلق جديد، ويتعين على الأمم المتحدة أن تعيد على نحو مستمر تشكيل نفسها، إذ لا بد أن نتطور حتى يتسنى لنا أن نلاحق خطوات عالم سريع التغير، فلا بد أن نكون أسرع وأكثر مرونة وكفاءة وشفافية وتحملاً للمسؤولية، وفي عصر التقشف، وندرة الموارد؛ لا بد أن نجعل لكل دولار قيمة حقيقية.

إنه وقت امتحان لنا جميعا، فالناس في كل مكان يعيشون في قلق وخوف متزايدين، وفقدان الثقة بالمؤسسات والزعماء يكاد يكون عالميا.

وفي وسط هذه الحالة الخطيرة من انعدام اليقين، يتوقف مستقبلنا على منظمة الأمم المتحدة التي تجمع بين بلدان العالم، ليس فقط للحديث والمناقشات، بل أيضاً للاتفاق على العمل؛ التي تسعى إلى تعبئة جهود المجتمع المدني، والشركات، والفلاسفة، والمواطنين العاديين لمساعدة حكومات العالم في حل المشاكل الحالية؛ وتسعى إلى جلب السلام والتنمية، وحقوق الإنسان، والمنافع العامة العالمية- أو في كلمة واحدة «الأمل»- إلى الناس في أنحاء العالم المختلفة وفي كل يوم.

* بان كي مون | Ban Ki-moon ، أمين عام الأمم المتحدة منذ 1 يناير 2007 ووزير خارجية كوريا الجنوبية سابق.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»