سألني القارئ بندر المهتم بالكتابة وبالهموم الثقافية سؤالا لم أفكر فيه بالرغم من أنه من صميم أدواتي الكتابية، ومع ذلك لم يحظ باهتمامي من قبل، ولا أدري ما هو سبب هذا الغياب أو النسيان أو التيه.

Ad

كان سؤاله هو عن كيفية تحسين اللغة وما هي طرق الاشتغال عليها؟

وعندما انشغلت في سؤاله اكتشفت أن الجواب قد يتطلب بحثا طويلا يجب أن تفرد له مساحة أكبر من مقالة لأنه بالفعل يحتاج إلى دراسة مطولة وهو الأمر الذي فتح في عقلي أكثر من نافذة لم تخطر لي على بال من قبل، وربما كان سبب ذلك أن لغتي التي ولدت معي هكذا لم اختارها ولم أتعب عليها جاءت بكل سهولة من صهير كل قراءتي، وباتت تشبهني وأشبهها، لم أستلفها ولم أستعرها ممن سبقني ولم أمش في طرق مهدها غيري، لقد انسقت بكل عفوية مع لغة نبعت من جسدي بمفردات قاموسها المرتبط بشبكة أعصابي وخلايا الإحساس فيها، وبمجرد الضغط على إحساس معين تنهال المفردات المرتبطة بهذا الحس الذي قد يكون فرحا، خوفا، يأسا ،حزنا وقنوطا أو نقلا لتجربة وجع معين... الخ.

هذه المشاعر الإنسانية لها شبكة واسعة من الخلايا العصبية الحسية المرتبطة بقاموسها الجسدي الحسي اللغوي، يكفي الإنصات الصادق المرهف لها حتى يتم قنصها والتقاط موجاتها، وستكون هذه المفردات التي تم التقاطها هي الأصح والأدق والأصدق والأفضل في تعبيرها عن الإحساس الذي يريد الكاتب أن يعكسه في الكتابة.

لذا نجد أن اللغة الصادقة في أحاسيسها، والمتفردة في أصالتها، هي اللغة التي تكشف عن روح كاتبها، وعن جوهره، فهي مرآته التي تبين مدى عمق إنسانيته، سطحيته، ثقافته، ضحالته، التزامه وتشدده، أو إن كان ذا فكر متأمل، فيلسوفا، صوفيا، مرحا، ساخرا في طبعه أو متشائما مكتئبا.

اللغة لها قدرة رهيبة في الكشف عن هوية وحقيقة جوهر كاتبها، فالكلمات التي تُكتب ليست بكلمات طائرة عابرة، بل هي أكبر من ذلك، لأنها في الحقيقة مرشد ودليل كاشف عن فكر ونفسية وثقافة، وانتماء الكاتب ومدى أصالة فكره وقوة حجته وصدق منطقه.

كل ما سبق كتابته ينطبق فقط على الكاتب الذي يتبع لغة جسده في كتاباته، أما هؤلاء الذين يتبعون الأنماط الممهدة، أي الأساليب التي تعجبهم من تلك الأشكال الكتابية الجاهزة المستعارة من الغير، فهم ليسوا بحاجة إلى الاشتغال على اللغة، فهي لا تخصهم بأي حال من الأحوال.

الاشتغال على اللغة يتولد من حسن الإصغاء إلى لغة الجسد أولا، واصطياد مفردات شفرتها ذات الحساسية العالية المعبرة بذكاء دقيق عن الإحساس المطلوب كتابته بصدق وفرادة.

ثانيا: يجب على الكاتب توسيع قاموس مفردات شبكته الحسية اللغوية في الكتابة، ووضع كل مفردة في مكانها الحسي الصحيح، فهناك فروقات رهيفة في معاني الكلمات لكنها تعطي تأثيرا كبيرا في المعنى، وتنوعها هذا يُغني النص ويبعد عنه التكرار والملل، فمثلا كلمة حب يستطيع الكاتب أن يكررها بمفردات مختلفة مثل: ود، عشق، غرام، هيام، وجد، جوى، شغف، تيم، وله...الخ.

كبر حجم قاموس مفردات الكاتب وغزارة تنوعه مهم جدا في الاشتغال على اللغة، والأهم من هذا كله هو قدرته على إحضار الإحساس الصادق والصحيح لكل مفردة من خلية وعصب المعنى في جسده.

اصطياد المفردة التي تطابق الحس المطلوب في المعنى المراد توصيله، هو قمة الاشتغال على اللغة، وفي رأيي انه يمثل الفرادة في نقل الإحساس الصادق الذي سيصل إلى قلب وفكر وروح القارئ بحرارة صدقه وعفويته التي ستنتقل عبر الشبكات الحسية العصبية المشتركة ما بين الكاتب وقارئه عبر كلماته المنقولة من وإلى.

اللغة حين تنبع من بئر الكاتب لا تشي بمصدرها وبمن تأثرت وما هي منابعها، لأنها لا تدرك ذلك، حتى من كتبها يجهل أصلها، فتجربة الكاتب الحياتية بكل أعماقها وأبعادها لها انعكاس كبير على اللغة، كما أن جميع قراءاته قد انصهرت مع كل الفنون الأخرى التي مارسها أو تذوقها ودرج عليها، كلها ذابت في نهر الكاتب الغافل عنها خاصة إذا ما ولدت كتابته متأخرة في عمرها أي لم تأت عقب هذه القراءات مباشرة، ساعتها ستأتي مصهورة بمعادن الكنوز السابقة كلها من دون تحديد هوية منبعها الذي صب وانصهر في جسد كاتب ستولد منه كتابة متفردة نابعة من روحه وجسده وفكره من دون أن تكشف عن مصادر منابعها.

فعسل النحل لا يشي بأسماء الورود والزهور التي امتصها في رحيقه.