رغم أن مصر لا تعرف تنمية اقتصادية وبشرية كتلك التي تعرفها تونس، ورغم أن متوسط دخل المصري أقل بكثير من نظيره التونسي، ورغم تردي الخدمات الاجتماعية والصحة والتعليم والنقل بمصر مقارنة بتونس، ورغم تزايد الدين العام وتفاقم الغلاء وتزايد معدلات البطالة المصرية فإن حال الغليان والنقمة لدى المصريين لا تقودهم إلى خروج جماعي غاضب كذلك الذي نفذه التونسيون.
عددت صحيفة «ديلي ميل» البريطانية الأسباب التي دفعت التونسيين إلى الاحتجاج والتظاهر ضد الرئيس زين العابدين بن علي، بشكل أجبر هذا الأخير على الفرار خارج البلاد، فوضعت على رأسها «ويكيليكس».بالفعل كانت «ويكيليكس» قد نشرت عدداً محدوداً من الوثائق يخص الأوضاع في تونس، ومما جاء فيها، أن مسؤولين في السفارة الأميركية كتبوا لوزارة الخارجية في واشنطن ما يفيد أن «النظام التونسي متصلب»، و»فقد التواصل مع الشعب»، وأن «الرئيس متقدم في السن»، و»ليس له خليفة معروف»، وأن «زوجته تحكم سيطرتها على مفاصل السياسة والاقتصاد في البلاد»، وأنها «استولت على أراض بحجة إقامة مدرسة ثم باعتها لمستثمرين أجانب»، وأخيراً أن «مافيا تضم أعوان الرئيس وأفراداً من عائلته تحكم سيطرتها على تونس».يمكن بالطبع فهم وقع مثل تلك الأقوال على شعب يعاني الفقر والغلاء والبطالة وشظف العيش، خصوصا حينما يقارن المواطنون المطحونون بين الأوضاع التي كانت عليها قرينة الرئيس، حيث أتت من خلفية اجتماعية متواضعة، ابنة لبائع خضر وفاكهة، وحصلت على دبلوم الحلاقة، ثم عملت «كوافيرة»، قبل أن تتزوج من أحد رجال الأعمال، وتُطلق منه بعد ثلاث سنوات زواج، وبين الأوضاع التي باتت فيها تتحكم بمسارات السياسة العامة، وتعين مسؤولين وتقيل آخرين، بسبب وضعها العائلي كزوجة لرئيس البلاد.ليس هناك أي دليل بالطبع على أن «ويكيليكس» كانت أحد أسباب الانتفاضة التونسية الأخيرة، لكن للحديث قدراً من الوجاهة، إذ عرفت تونس بالفعل نظاماً مغلقاً استبدادياً اعتمد أساساً على تقييد حرية الصحافة والإعلام وفرض رقابة مشددة على «الإنترنت»، وهو الأمر الذي حجب الكثير من المعلومات عن التداول.لقد كانت تونس مثل غيرها من الأنظمة العربية الأخرى، التي تعتقد شعوبها أن زعماءها مسنودون من القوى العالمية الرئيسة، وأن تلك القوى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، لن تسمح بالإطاحة بهؤلاء الزعماء، لكن ما ورد في «ويكيليكس» كان يشير بوضوح إلى أن الأميركيين ضاقوا ذرعاً بـ «تصلب النظام التونسي وعجزه عن الاستماع للنصائح».لم تكد تنجح الانتفاضة التونسية في تحقيق أول مطالبها بتنحية ابن علي عن الرئاسة، حتى سرت روح فرح متفائلة في عدد من الدول العربية، خصوصا تلك الواقعة في الشمال الإفريقي، والتي تعرف ظروفاً سياسية واجتماعية واقتصادية مشابهة لتلك التي تعرفها تونس.عول الكثيرون على ما حدث في تونس، وتحدث البعض عن «الدومينو» العربي، الذي سينقل الأحداث من بلد إلى آخر، وعلق ناشطون ومعارضون كبار بالقول: «إنها كرة الثلج، لن تلبث أن تكبر وتأخذ كل شيء في طريقها».ما حدث في التسعينيات في شرق أوروبا عقب انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي يعزز الحديث عن «دومينو عربي» في أعقاب أحداث تونس؛ إذ انهارت الأنظمة الشيوعية المستبدة الشائخة واحداً تلو الآخر إثر انطلاق الشرارة الأولى في ألمانيا الشرقية وبولندا.كانت تلك هي النغمة السائدة في كل المحافل والمنتديات، وفي ما تيسر من كتابات الصحفيين والمحللين وتعليقاتهم على بعض الشاشات، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي في «فيسبوك» و»تويتر» و»هاي 5» و»ماي سبيس» وغيرها.وفي القاهرة مثلاً، توجه متظاهرون مصريون وتونسيون إلى مقر السفارة التونسية للتعبير عن فرحهم بتخلص الشعب التونسي من رئيسه الهارب، وعقب معارضون رئيسون بالقول إن «أول الغيث قطرة»، وعلى الإنترنت تداول الناشطون عبارة: «راح زين العابدين... والدور عليكو يا مصريين».حين وقعت الأحداث الدراماتيكية المتتالية في تونس مساء الجمعة الماضي وهيمنت على المجال العام في العالم العربي وبعض دول العالم، كنت في أحد مقاهي العاصمة المصرية بين عشرات الرجال والسيدات الذين ينخرطون في مشاهدة مباراة كرة قدم متوسطة القيمة والأهمية، تجمع المنتخب المصري ونظيره الكيني، في إطار بطولة أعدت على عجل لدول حوض النيل.لم تكن المباراة تحفل بمنافسة حقيقية، حتى أن نتيجتها انتهت بفوز الفريق المصري بخمسة أهداف مقابل هدف واحد، وكان البعض مشغولاً بلعب طاولة النرد أو الأحاديث الفكاهية الجانبية، ومع ذلك فقد رفض كثيرون الانتقال إلى قناة إخبارية لمعرفة التطورات الحاصلة في تونس، واكتفى أحدهم بالقول «ربنا يعينهم» قاصدا التونسيين.مصر ليست تونس، أو هي ليست كتونس، فمصر لا تحتاج إلى «ويكيليكس» لتكشف لها فضائح أو تجاوزات نخبتها الحاكمة، لأن تلك التجاوزات معلومة ومتداولة، بل إن بعضها يضاف إليه من الخيال والاحتقان الجمعي أضعاف ما به من حقائق. ورغم أن مصر لا تعرف تنمية اقتصادية وبشرية كتلك التي تعرفها تونس، ورغم أن متوسط دخل المصري أقل بكثير من نظيره التونسي، ورغم تردي الخدمات الاجتماعية والصحة والتعليم والنقل بمصر مقارنة بتونس، ورغم تزايد الدين العام وتفاقم الغلاء وتزايد معدلات البطالة المصرية مقارنة بما سواها في معظم دول الشمال الإفريقي، فإن حال الغليان والنقمة لدى المصريين لا تقودهم إلى خروج جماعي غاضب كذلك الذي نفذه التونسيون.ثمة أسباب عديدة لا تقود «الدومينو» التونسي إلى مصر؛ بعضها يتعلق بطبيعة الشعب المصري السياسية والاجتماعية، وميراث الدولة المركزية التي يحكمها فرعون، يتمتع بالولاء التام بمجرد جلوسه على العرش، في بلد نهري يعيش على نمط الإنتاج الآسيوي.وبعض تلك الأسباب يتعلق بدرجة الانفتاح الإعلامي والسياسي النسبية التي يتمتع بها المصريون مقارنة بنظرائهم التونسيين، حيث يُسمح لهم بـ»التنفيس» عن مشاكلهم عبر العديد من الوسائل، إلى درجة تحول «الإنترنت» المصري إلى محفل للشتم والذم بحق «رموز الحكم» أحياناً، وإلى درجة تحيل «ويكيليكس» إلى أقوال ضعيفة باهتة في مواجهة طوفان من قصص الفساد والتردي يتداولها المصريون على «ويكيليكس شعبي» اخترعوه منذ عقود.ثمة عامل آخر غاية في الأهمية يتعلق بافتقاد ابن علي دعم القوة الصلبة في بلاده وربما تخليها عنه في مواجهة الجمهور الثائر وبسبب انعزاله عنها وفقدانه ولائها، وهو أمر لا يتحقق حتى هذه اللحظة في مصر.على المصريين أن يجدوا طريقة أخرى للإصلاح، حتى إن كلفتهم طاقة وعزما ووقتا أطول، لأن «الدومينو» التونسي لن ينتقل إليهم سريعا كما يأمل البعض.* كاتب مصري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراءيمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة
مقالات
مصر والدومينو التونسي
16-01-2011