الغضب الساطع... من كل طريق آت
غضب عارم يجتاح بلاد العرب «أوطاني» منَ «الشّـامِ لبغدانِ ومن نجدٍ إلى يَمَـنٍ إلى مِصـرَ فتطوانِ»... ها هو الغضب الساطع الذي مر على الأحزان، وقالت عنه فيروز إنه آتٍ آت آت، ولكنه غيّر طريقه وتوجه نحو تحرير الداخل الذي فاض به الألم والفقر والجوع وانعدام الأمل... وها هي ثورة تونس التي لخصها الأستاذ هاني نقشبندي بأنها ثورة «انعدام الأمل»، حيث تتجلى المفارقة العجيبة حين «يكون انعدام الأمل هو الطريق الوحيد لخلق أمل جديد»، ولسان حال الثورة يردد مع فيروز «في أمل... إيه في أمل... أوقات بيطلع من ملل». لقد أخفقت الحكومات المراهقة في شرقنا في إدراك خطورة انسداد الأفق الذي يؤدي لا محالة إلى الغليان ومن ثم الانفجار... كما فشلت في قراءة التحولات الجذرية للجيل الجديد من الشباب المشحون بطاقات ثورية اكتسبها من ثورة الاتصالات والفيس بوك والتويتر بعيداً عن المناهج والإعلام والأجهزة الأمنية والقمع الممنهج... وعلى الحكومات أن تدرك خطورة غضبته، وأن الثورات التي كان مخاضها في السابق يستمر لسنوات طويلة قبل ولادته، تستطيع اليوم ثورة الفيس بوك أن تشعلها خلال أيام كما حدث في تونس... السؤال الذي يطرحه الكثير من المحللين هو هل سيتم سرقة تلك الثورة الشعبية غير المسبوقة التي لا تنتمي إلى أية أيديولوجيا أو طائفة كما سرقت واغتصبت التجارب الثورية السابقة من قبل الراكبين على أمواجها من العسكر أو الحرس القديم أو رجال الدين؟ هذا هو السؤال.
علّمنا التاريخ أن الثورات الشعبية لن تنجح ما لم تتمكن من إحلال نظام جديد وفكر جديد مكان نظامها القديم المهترئ كالنظام الذي قام في الغرب بعد الثورة الفرنسية (التي انقلب عليها كذلك بونابرت في البداية ثم عادت إلى فكرها في ما بعد)... تلك الثورة التي سبقتها ثورة العقول والأفكار، فأسست للعقد الاجتماعي الذي كانت نواته مفاهيم حقوق الإنسان والمساواة والحرية... تلك المفاهيم التي لا تتحقق إلا بنظرية «مونتسكيو» لفصل السلطات الثلاث، ذلك أن عدم تقييد السلطات وتداخل اختصاصاتها يؤدي إلى الطغيان، أما استقلال كل سلطة عن الأخرى فسيحافظ على التوازن بينها وسيمنع استبداد إحداها.ذلك النظام الجديد الذي لم يتوقف تطوره وتجديده لذاته (وذلك هو سبب استقراره) عمل على صياغة فلسفة جديدة «للأمن الإنساني»، الذي تطور بعد فشل النظرية التنموية التي اقتصرت في السابق على التنمية الاقتصادية، لتشمل تحرير الإنسان من التهديدات الشخصية والبيئية والصحية والاقتصادية والاجتماعية، كما استبدلت المفهوم القديم لقوة الردع لأمن الدولة بمنطق «القوة اللينة» كالتنمية البشرية والحكم الرشيد والمواطنة الصالحة وحكم القانون والشفافية وحماية الحريات واحترام حقوق الإنسان، وهي فلسفة تبدأ بأمن الإنسان لتنتهي بأمن الدولة. ولكن لم تستوعب حكوماتنا، التي أقر تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009 أن سبب فشلها في التنمية هو غياب فلسفة الأمن الإنساني، ذلك الأمن الذي تتوق إليه الثورة الشبابية الجامحة التي يبدو أنها عقدت العزم على انتزاع حقوقها وحرياتها وعلى تغيير النظام القروسطي القديم الذي ترزح تحت نير استبداده واستعباده، سواء في الدكتاتوريات الصريحة أو الديمقراطيات الكاذبة. أسئلة كثيرة معلقة، سيجيب عنها القادم من الأيام أو السنين ربما: هل ستكون «ثورة الياسمين» ثورة نحو التغيير والديمقراطية الحقيقية أم ستُسرَق كباقي الثورات في منطقتنا؟ هل ستصنع تلك الثورة السياسية الصناعة الثقيلة للفكر والإبداع والإنتاج، وتصدق مقولة فولتير فيلسوف التنوير «عندما يبدأ الشعب بالتفكير، آنذاك يكون من المستحيل توقيف موكبه»؟ وهل ستكون تلك الثورة بداية لبزوغ عصر جديد ينقل شرقنا من العالم القديم إلى العالم الجديد؟ أم ينبغي علينا كما يقول فولتير أن «نتجرع الدرس، في كل مرة، مُراً كالعلقم إلى آخره، ثم نبدأ من الصفر، كأننا لم نتعلم شيئاً، وكأن الضحايا ليست سوى قناديل مطفأة على طريق محفوفة بالخسارات»؟