المدوّنة الطبيّة تاريخ جراحات تكبير الثدي
ينبغي أن تتم كتابة التاريخ بتجرّد ووصف أمين وصادق من دون محاباة، كما نرى كيف تُعظم أدوار الناس في الحياة خصوصاً إذا مات شهود العصر، نلمس ذلك حتى في مجال الطب. أتمنى أن أروي قصة تجميل الثدي كما حدثت وأن يتقبلها الجميع كقصة تاريخية من دون تأويل وحكم اجتماعي أو ديني على المحتوى، وأن يستفيد منها المرضى والأطباء وكل المهتمين بدراسة التاريخ الطبي أيضاً.محاولات فاشلة
الثدي أحد مواطن الجمال في جسم المرأة لذلك دأبت هذه الأخيرة، منذ أمد بعيد، على إبراز مواضع الفتنة في جسمها، ويعود تاريخ أولى المحاولات لتكبير الثدي وإبرازه إلى ما يزيد على قرن مضى، وقد اعتُمد آنذاك على الحقن المباشر واستُعملت مادة البارافين القاسية في البداية، إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل لكثرة الالتهابات وقساوة الثدي، لذا لم يلقَ الحقن المباشر النجاح.يُذكر أن بنات الليل اليابانيات، بعد الحرب العالمية الثانية، استعملن الحقن المباشر لمادة السليكون في الثدي لجذب الجنود الأميركيين الموجودين هناك، وعلى رغم سعادتهن بالشكل الجديد في البداية إلا أن التليّف والالتهابات الشديدة التي تلتها قللت من استعمال هذه الحقن، خصوصاً إذا علمنا مدى صعوبة التخلّص منها، حتى أن الأطباء اضطروا، في كثير من الأحيان، إلى استئصال الثدي بالكامل.نجحت بعض الشيء محاولات حقن الثدي بالدهن المستخرج من التكتلات الدهنية في الجسم، إلا أن ذوبان جزء كبير منها وتفاوت الشكل بين الثديين منعا الأطباء من استخدامها، في الوقت نفسه كانت ثمة مدرسة أخرى تنادي بزرع قطع صلبة داخل الثدي لتزيد حجمه. أشهر ما تمّ زرعه في الماضي: كرات الزجاج البلورية، كرات العاج والمطاط، إضافة إلى البوليمرات الصناعية، وقد رافقتها التهابات وفشل في الحصول على شكل مقبول، ما حدّ من استعمالها.حشوة السيليكونيعود تاريخ استعمال الحشوات الحديثة إلى عام 1958 عندما اخترع جراحا التجميل الأميركيان توماس كرونين وفرانك جيراو حشوة معبأة بالسليكون ليتم زرعها في الثدي، منذ ذلك الوقت أصبحت عملية تكبير الثدي باستخدام الحشوات إحدى أشهر جراحات التجميل، التي خضعت لها أكثر مليون إمرأة سنوياً في الثمانينيات من القرن الماضي، وكان الشغل الشاغل للأطباء والشركات صناعة حشوات تعطي الامتلاء للثدي مع الحفاظ على إحساسه الطبيعي وتقليل المضاعفات مثل الالتهابات والتليفات، وقد مرت صناعة حشوات الثدي بتطورات غيرت وجه الصناعة الطبية ككل، وبأربع مراجل سببت اللغط والخوف من هذه الحشوات وهذا ما نشهده لغاية اليوم. في الستينيات من القرن الماضي انتشرت حشوة الطبيبين كرونين وجيراو وتكوّنت من غلاف من السليكون المطاطي السميك مليء بمزيج عالي الكثافة واللزوجة من السليكون السائل، صنعت الحشوة على شكل دمعة ووضعت ليفة صناعية في أسفلها لتتمّ خياطة الحشوة إلى جدار الصدر منعاً لتحركها من مكانها، وكانت هذه الحشوة نواة لتأسيس أكبر شركة تصنع حشوات الثدي هي «داو كورنين». المشكلة الأساسية في هذه الحشوة هي ملمس الثدي القاسي وغير الطبيعي وتكوّن كبسولة من الألياف حولها تضغط عليها وتسبب تشوهاً في شكل الثدي.حشوة ليّنةفي أوائل السبعينيات من القرن الماضي، استجابت شركة «داو كورنين» لطلبات الجراحين والنساء بصنع حشوة أكثر ليونة تشبه نسيج الثدي الطبيعي من ناحية الملمس، ولا تسبب الكثير من التليف حول الكيس في الوقت نفسه، ما يقلل من تكوّن الكبسولة الضاغطة حولها، هكذا صُنع كيس خارجي من السليكون المرن أشبه بأكياس التسوّق التي نستعملها لحمل الأغراض، وتمّ حشوه بمادة السليكون الهلامية اللينة جداً والتي تشبه «الجيلو» الذي نتناوله. كان الكيس رقيقاً جداً بحيث سهل تمزّقه في حالات كثيرة ورافق ذلك خروج السائل الهلامي ليحتك بأنسجة الثدي مسبباً التهابات وتليّفات والكثير من الآلام، في الوقت نفسه تم تطوير غلاف خارجي جديد من بوليمر اليوريثان المطاطي وميزته الالتصاق بالأنسجة المحيطة به بما يمنع تكوّن الكبسولة الليفية الضاغطة.عام 1990 رُفعت شكاوى ضد شركة «داو كورنين» وغيرها من الشركات بقيادة الحكومة الأميركية بتهمة صناعة منتج كثير الأعطال والتمزق ويضرّ بالصحة ويسبب السرطان، لاحتواء اليوريثان على مادة أمينية هي الـ «تي دي أي» المشتبه بتسبّبها بالسرطان، كذلك اتُّهم السليكون بالتسبّب بالإصابة بأمراض الروماتيزم.أمام مليارات الدولارات المطلوبة كتعويضات، أفلست الشركات كافة ما عدا «داو كورنين» التي دفعت مبالغ طائلة في تسويات مع المرضى، ووقّعت اتفاقية مع الحكومة الأميركية تتعهد فيها بعدم بيع أي حشوات فيها سليكون، واستمرت في صرف الحشوات المعبأة بمحلول ملحي مكوّن من ماء وملح الطعام، بحيث لو تسّرب يمتصه الجسم، على أن تُزرع حشوات السليكون ضمن مشروع بحث ودراسة للإجابة عن تساؤلات حول علاقة الحشوات بالإصابة بالسرطان أو التسبب بأمراض الروماتيزم.بعد دراسة طويلة الأمد، خرجت الدراسات بأن هذه الحشوات آمنة ولا علاقة بينها وبين السرطان أو أمراض الروماتيزم، وأصبح تنظيم الصناعات الطبية من مسؤولية منظّمة الأغذية والدواء الأميركية، بحيث لا يتم إدخال أي منتج إلى السوق قبل خضوعه لدراسات على أربع مراحل بدءاً بالحيوانات ثم الإنسان للبت بأمان الأجهزة والمعدات. وأصبح هذا الأمر سارياً على الأجهزة كافة سواء المزروعة في داخل جسم الإنسان أو المستعملة خارجه.تطوّر الصناعةفي تلك الأثناء، جُربت أغلفة بدءاً من حشوة الكيسين المحتوية على كيس خارجي من محلول ملحي وداخلي من السليكون، وعلى رغم فكرتها الذكية إلا أن تصنيعها كان معقداً ما زاد فرصة الخلل والمشاكل معها، تلت ذلك صناعة غلاف جديد أكثر متانة ورقّة مع تطور الصناعة، وله ملمس خشن بحيث يصعب أن يتهتك أو يتمزق من دون أن يؤدي إلى قساوة الثدي، كذلك اكتشفت نوعية جديدة من السليكون الهلامي الذي يستعمل كحشوة، وتميّز بتلاصقه مع بعضه بحيث لا يسيل حتى لو حدث تمزق في الغشاء المحيط به، مع احتفاظه بالملمس الطبيعي المماثل لنسيج الثدي. تبع هذا التطور مباشرة العودة مرّة أخرى إلى الحشوات بشكل الدمعة مع الاستمرار في صناعة الحشوات المستديرة. اليوم أثبتت الدراسات عدم وجود علاقة لمادة الـ «تي دي إي» بالسرطان، مع ذلك عزفت الشركات الأميركية عن إدخاله إلى الولايات المتحدة على رغم انتشاره في أوروبا وأميركا اللاتينية وثبات فائدته في تقليل التليفات وتكوّن الكبسولات الضاغطة، وذلك خوفاً من أي دعاوى محتملة مستقبلية.يمكن القول إن اختيار الحشوة المناسبة أصبح علماً مبنياً على شكل الثدي المثالي كما أثبتت الدراسات ومقاسات الجسم العلوية ورغبة المريض إضافة إلى موقع حلمة الثدي الحالية ومدى حاجتها الى الرفع.المدونة المقبلةفي المدونة المقبلة سنطرح أهم التساؤلات التي تحتاج المريضة إلى معرفتها من طبيبها قبل الخضوع للجراحة التجميلية لتفهم النتائج، كذلك سنشرح أحدث التطورات في تكبير الثدي ورفعه. لن نخوض في جراحة تجميل الثدي بعد استئصاله نتيجة أمراض السرطان، فهذه حالات خاصة تؤخذ اعتبارات أخرى فيها، وتتم عادة بنقل الشحم والعضلات من منطقة في الجسم إلى الثدي مع احتمال وضع حشوة لمساواة الثديين.