يروى أنه عندما زار العالم الشهير فخرالدين الرازي إحدى المدن، خرج الناس يتهافتون ليستقبلوه، فرأت هذا المنظر إحدى العجائز وسألت واحداً من المتجمهرين عن المسألة، فأجابها: هذا الإمام فخرالدين الرازي، زار المدينة وخرجنا لنستقبله، فقالت: ومن يكون فخرالدين الرازي هذا؟ فأجابها: هذا الذي جمع كتابا فيه ألف دليل على وجود الله، فقالت بهدوء: لو لم يكن عنده ألف شك لما جمع ألف دليل، وعندما وصل الخبر إلى الرازي قال: اللهمَّ إيمانا كإيمان العجائز.
الواضح من هذه القصة، وهي قصة غير محققة ولا ثابت لصحتها بطبيعة الحال، أن المراد بإيمان العجائز هو ذلك الإيمان الفطري البسيط، الخالي من تساؤلات الشك، وهو المتبادر عند من يرددون هذا الدعاء أحيانا، إلا أنني عرفت عن قرب شكلا آخر من أشكال إيمان العجائز، شكلاً يتجاوز هذا الإيمان المقصود في حكاية الرازي، وهو الشكل الذي قد يبدو ساذجا شيئا ما عند البعض، من زاوية أن إيمانا لم يتعرض لامتحان الشك والتساؤل مشكوك في ثباته واستقراره، وهو رأي قد يختلف معه بعض آخر، من زاوية أن سماء ذات بروج وأرضاً ذات فجوج تدلان حتما على اللطيف الخبير، وكل مجال للشك بعد ذلك هو أقرب إلى السفسطة والعبث العقلي.كنت أقول إني شاهدت صنفا من إيمان العجائز، تجاوز هذا، إيمان تمثل في حالة من اليقين والتسليم البالغين للخالق المعبود، حالة استثنائية حين بلغها صاحبها، استقر في حالة مبهرة من الاتزان النفسي، والهدوء والسكينة الروحية غير المعهودة.شاهدت هذه الحالة، وعايشتها منذ سنوات، قبل أن تتوفى جدتي لأبي رحمها الله.جدتي، أم متعب، كانت امرأة ضريرة، أكل بصرها الجدري في منتصف شبابها، ولكنه لم يفلح في أن يقعدها عن القيام بواجبات حياتها في ذلك العمر، وهي ابنة البادية التي ما كانت لتعرف غير حياة الشظف والتعب والجهد بطبيعتها، لكنني لم أع شيئا من هذا كله، وقصارى ما تحصلت عليه من مشاهد وحكايات كان نقلا عنها، ومن أفواه الذين عاصروها في تلك الفترة.ما وعيته تماماً من عمر جدتي كان تلك الفترة التي كانت قد شاخت فيها وكبرت جداً، فلزمت البيت، بعدما نزل أهلنا إلى الحاضرة، فاستقرت في غرفة مستقلة لها، لا أزال أذكر هيئتها وعطرها الدافئ الحنون، وصار لها عالمها الخاص، عالمها الذي كان يخاله الرائي ظلاما دامسا، ولكنني اليوم أجزم بأنه كان منيرا طوال الوقت، فقد كان لسان جدتي رطبا في كل لحظاتها بذكر الله، وذاكرتي تبدؤني دوما حين تستدعيها بتلك التسبيحات وذلك الاستغفار الذي لم يكن يتوقف لسانها عن ترداده وتكراره في كل الأحايين.ما زلت أذكر لمسة جدتي على تفاصيل وجهي حين كنت أزورها، حين كانت تتخلل بأصابعها لحيتي، وتمسك بعدها بيدي وهي تسألني عن شؤوني وأخباري بأسئلتها الخافتة المقتضبة، ثم تسكت بعدها لترحل إلى عالمها الأثير، عالم أنوار التسبيح والاستغفار.كل من عرفوا جدتي لا يذكرون عنها اليوم أنها ذكرت أحدا بسوء، أو تدخلت في ما لا يعنيها، أو ازدرت إنسانا أو لمزت مخلوقا، كانت منشغلة في أمر نفسها طوال الوقت، وزادها صلاتها وهواؤها التسبيح والاستغفار، ومن كانوا بقربها في لحظاتها الأخيرة، قبل أن تغادر هذه الفانية، يذكرون أن لسانها لم يتوقف لحظة عن التشهد، حتى أسلمت الروح.هذا النموذج الإيماني المصبوب صبا في قالب اليقين والتسليم التامين، واستشعار المعية والرهبة والخشية طوال الوقت، هو مرتبة نورانية عالية، لا تتاح لكل بشر، إلا من أراد الله به خيرا. لا أزكي على الله أحدا، ولكن الناس شهود الله في أرضه، وما شهد الناس إلا بكل خير عن تلك العجوز.رحمك الله يا جدتي، وجعل مقامك في جنة الخلد... اللهم إني أسألك إيمانا كإيمان العجائز. كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراءيمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة
مقالات
حكاية جدتي!
21-11-2010