- 1 -

Ad

حكم مصر منذ 1952 ثلاثة رؤساء جمهورية، كان لكل منهم أسلوبه وطابعه وشخصيته المختلفة وظروفه السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية المختلفة.

فكان عبدالناصر (بعد أحمد عرابي 1881) أول ضابط عسكري يخرج من ثكنته ليقود انقلاباً ضد الملكية الفاسدة في ذلك الوقت، ثم ليتحول انقلابه إلى ثورة اجتماعية وسياسية، وتنتقل من حيزها المصري الخاص إلى الفضاء العربي العام، وينجح في بعض الأحيان إلى تصدير مبادئ هذه الثورة إلى الشارع العربي، فأصاب بها بلاد الشام، والعراق، واليمن، والجزائر، وليبيا.

- 2 -

ولكن عبدالناصر كضابط عسكري كان سطحي الثقافة، وضيق الأفق السياسي، ولم يكن يعلم عن الغرب غير استعماره لمصر، ومناصرته لإسرائيل، ولذا عادى عبدالناصر الغرب عداءً مطلقاً بكل مظاهره، وإنجازاته، وقطع الصلة نهائياً به، وتوجَّه بكليته إلى الشرق (الاتحاد السوفياتي)، وكان أن تخلّص من التبعية الغربية ليقع في شِباك التبعية الشرقية، ولو فعل عبدالناصر في مصر ما فعله الحبيب بورقيبة في تونس، لما كانت مصر الآن على هذه الحال من الفقر، وسوء الحال العام.

- 3 -

فعبدالناصر كان يخشى خشية كبيرة رجال الدين، والأحزاب الدينية السياسية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، ويقيم وزناً كبيراً لتأثير الأزهر الديني في الشارع المصري المتدين. على عكس الحبيب بورقيبة، الذي قاد معركة حداثية تاريخية ودينية على رجال الدين المتشددين. وطبّق مقولة المتنبي: «وداوها بالتي كانت هي الداء». أي مواجهة رجال الدين الأصوليين المتشددين برجال الدين الحداثيين المتفتحين. وهو ما لم يقدر عليه عبدالناصر لضحالة ثقافته وضيق أفقه السياسي والثقافي، واتخاذه حفنة من الإعلاميين المتواضعين كمستشارين، وإهماله لكبار المثقفين المصريين من اليمين، واليسار، والوسط، وكانت النتيجة الوقوع في أخطاء ومهالك وكوارث وهزائم عسكرية ماحقة، في حين أن بورقيبة منذ 1956 حتى مرضه وتخليه عن السلطة 1987 لم يقع في أخطاء وطنية تونسية، عدا أنه عزل الأحزاب الدينية السياسية، وكانت تلك فرضية سياسية استدعتها دقة المرحلة الصعبة التي كان يقودها كما يقول الباحث والأكاديمي الفلسطيني أسعد عبدالرحمن في كتابه «الإنماء السياسي في التجربتين الناصرية والبورقيبية، 1981».

- 4 -

في عهد عبدالناصر تم حل الأحزاب السياسية التي كانت قبل 1952 وعلى رأسها جماعة «الإخوان المسلمين»، وقد أدرك عبدالناصر، أن هذه «الجماعة» هي التهديد الخطير لثورة 1952، وزاد قناعة في ذلك عندما حاول «الإخوان المسلمون» اغتيال عبدالناصر عام 1954 في الإسكندرية، فتم تشكيل المحاكم العسكرية التي حكمت بإعدام عبدالقادر عودة القيادي الإخواني، والشيخ محمد فرغلي، ويوسف طلعت، وإبراهيم الطيب، وهنداوي دوير، ومحمود عبداللطيف. هذا بخلاف من قتلوا من جراء التعذيب خلال الفترة من 1954 - 1965، وتلا ذلك محاكمة عدد آخر من زعماء «الإخوان المسلمين» في عام 1966، وعلى رأسهم سيد قطب حيث قضت المحكمة العسكرية بإعدامه، مع كل من يوسف هواش، وعبد الفتاح إسماعيل.

- 5 -

كذلك طارد عبدالناصر، زعماء وقياديي الأحزاب الأخرى كحزب الوفد، ومجموعة كبيرة من المثقفين اليساريين المصريين، وسجنهم، وعذَّب جزءاً منهم، ودان له الإعلام المصري المؤمم، ولم يسمح بقيام أحزاب معارضة، أو صحافة معارضة أو رأي آخر معارض، وتم حكم مصر طيلة 18 عاماً (1952-1970) حكماً عسكرياً دكتاتورياً صارماً. وتم تكميم الأفواه من كل الأطراف، ولم يعد أحد يقدر على نقد السياسة الناصرية، ولم يجرؤ كاتب كتوفيق الحكيم على نقد السياسة الناصرية إلا بعد رحيل عبدالناصر عام 1970 حين أصدر كتابه (عودة الوعي) النقدي للعهد الناصري عام 1971. وكان عدد سكان مصر في ذلك الوقت لا يزيد على أربعين مليوناً كانت مصر قادرة على إطعامهم رغم انتشار الفقر وقلة الموارد، فأنشأ عهد عبدالناصر الجمعيات التعاونية التي كانت توزع الطعام والمواد التموينية بالبطاقة التموينية ومنذ ذلك الوقت نشأت في مصر طوابير الغذاء والمواد التموينية. وزاد الطين بلّة حرب السويس 1956 والحملة العسكرية على اليمن 1962 وحرب 1967 التي خسرت فيها مصر خسارة كبيرة. ويؤكد الباحث المصري جلال عامر أن «الإخوان المسلمين» حاربوا مع القوات الملكية في اليمن ضد عبدالناصر، وكيداً، كما اصطفوا إلى جانب صدام حسين في غزوه الغادر على الكويت كيداً لأميركا، ولم تكن ثورة الاتصالات والمعلومات قد حدثت في الستينيات من القرن الماضي، لذا لم يتم فضح عيوب ورذائل العهد الناصري، كما يتم الآن في عهد مبارك.

- 6 -

في عهد مبارك (1981-2011) تمَّ السماح بإنشاء أحزاب معارضة وصحافة معارضة، ولم يجرؤ المصريون على انتقاد الفساد المالي والسياسي نقداً مريراً في أي عهد من عهود تاريخهم الطويل، كما انتقدوه طيلة ثلاثين سنة الماضية (1981-2011). وقال المفكر السياسي مصطفى الفقي إن مصر لم تشهد طيلة عهودها الطويلة حرية رأي ونقد في كل الوسائل، خصوصاً في ظل ثورة المعلومات والاتصالات التي استغلت في أحداث 25 يناير 2011 استغلالاً كبيراً، وسهَّلت كثيراً على قيادات الاضطرابات الاتصال والتنسيق، وحالة «الفلتان» الأمني غير المسبوق الذي تشهده مصر الآن.

- 7 -

فهل دفع مبارك ثمن كل هذا الآن، وهو مطالبة البعض في الشارع المصري بتنحيته؟ لقد سبق أن قال مونتسيكيو، أحد فلاسفة الثورة الفرنسية: «إن الغوغاء لا تصنع الديمقراطية». فماذا يمكن أن يضاف إلى الديمقراطية المصرية، في مجتمع مصر الحالي، الذي مازال يُصنَّف علمياً وثقافياً واقتصادياً، من ضمن العالم الثالث بكل نواقصه، ومشاكله، وتعقيداته؟ وهل يستحق عهد مبارك بفضائله ورذائله كل هذه الأفعال التخريبية؟ وهل كان عهد مبارك أسوأ من عهد فاروق الملكي، بحيث لم يتم بالثورة على فاروق، ما تمَّ بالثورة على عهد مبارك؟

لقد استطاع الناقمون الخاسرون في الانتخابات التشريعية الأخيرة من مبارك، أن يسددوا ضربة موجعة لمصر الوطن، والشعب، في شخص مبارك الذي كان كبش فداء الديمقراطية الجديدة في المحروسة.

* كاتب أردني

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة