لو لم تكن "الجزيرة" موجودة لاخترعناها

Ad

نعم... فقد كانت قناة "الجزيرة" الفضائية، المنطلقة من قطر، حاجة حقيقية للمجالات الثقافية والسياسية والإعلامية في عالمنا العربي؛ مرة لأنها برهنت على قدرتنا على تقبل سماع حجج الآخرين وذرائعهم حتى لو كانت تناقض مواقفنا وتوجهاتنا، ومرة ثانية لأنها خدشت إطار الاستبداد الذي قمع ممارساتنا الإعلامية على مر عقود طويلة، ومرة ثالثة لأنها أثبتت قدرتنا على تطوير وسائل إعلام تعمل وفق قدر معتبر من المهنية، وتحظى بقدر كبير من التأثيرة والنفاذ.

يبقى أفضل ما في "الجزيرة" أنها فتحت الباب لكوادر مهنية عربية عبرت عن نفسها تعبيراً جيداً ومنطلقاً، فأثبتت أننا بارعون في تلك الصناعة، وقادرون على الوفاء بمعايير أداء من طراز عالمي. أما أفضل ما فعلته على الإطلاق، فليس سوى أنها ألهمت المجالين الإعلامي والسياسي في العالم العربي للنزوع نحو مزيد من الانفتاح، وشكلت ضغوطاً واضحة على منظومات الإعلام الوطنية، فسحبتها نحو المزيد من التنويع والإجادة والخروج من أنماط العمل الدعائي المباشر لمصلحة أصحاب القرار.

لو لم يكن "ويكيليكس" موجوداً لاخترعناه.

نعم... فرغم أن "ويكيليكس" ليس سوى جبل جليد ضخم لم نعاين سوى قمته اللامعة، فيما تغرق قاعدته الأكبر في الظلام، ورغم أن أحداً من المنشغلين بشظاياه المتناثرة حول العالم لا يعرف تحديداً من يقف وراءه، ومن يموله، ويضع أجندته، ويحدد أهدافه، ويغطيه معنوياً ولوجستياً، ويدعمه قانونياً وسياسياً، ورغم أن معظم ما أتى به ليس سوى فضائح ونميمة وتقييمات دبلوماسيين قد تخطئ وقد تصيب، وأنه لم يكشف أسراراً حقيقية من تلك التي يمكن أن تعيد تشكيل رؤيتنا للأحداث أو تقلب موازين رئيسة حيالها... رغم كل ما سبق، فإن "ويكيليكس" ملأ الدنيا وشغل الناس على مدى هذا العام المشرف على الانتهاء.

لقد حظي "ويكيليكس" بكل هذه الشهرة والرواج، لأنه ألقى أضواء مبهرة على زوايا في الأحداث ظلت بعيدة عن بؤر الاهتمام وعصية على التناول من دون إثباتات.

من ضمن آلاف الوثائق التي نشرها "ويكيليكس"، والتي نشرتها بالتزامن معه صحف رئيسة في العالم، تلك المتعلقة بالأداء السياسي القطري في المنطقة عموماً، خصوصاً تلك التي أشارت إلى رؤية الدبلوماسيين الأميركيين لما اعتبروه بشكل أو بآخر "براغماتية" واضحة في الأداء السياسي للدوحة. لكن ثمة ثلاثة تقييمات بارزة تناولت "الجزيرة" مباشرة؛ أولها لم يكن يحتاج إلى "ويكيليكس" لكي يرصده أي متابع مدقق، والمقصود هنا بالطبع تحول نمط أداء تلك المحطة ذائعة الصيت حيال السعودية عقب إجراء مصالحة سياسية بين الرياض والدوحة.

لا يحتاج الأمر إلى "ويكيليكس" ليعرف كل متابع أن "الجزيرة" كانت تلقي أضواء، وتختار قصصاً، وتستضيف مصادر، وتعد تقارير تتقاطع مع هواجس وانشغالات سعودية تنظر إليها الرياض بحساسية شديدة، وتعتبر تناولها أمراً مسيئاً. ولا يحتاج الأمر إلى فطنة ليعرف كل متابع أن تلك الأمور تراجعت حتى كادت تتلاشى بعدما تبادل القادة في البلدين زيارات وحسموا مشكلات عالقة تتعلق بالحدود والثروات المشتركة والأدوار السياسية وغيرها من نقاط التقاطع.

لقد أكد "ويكيليكس" أن القطريين "ساوموا السعوديين بالتغطية التي تتبناها المحطة حيال قضاياهم لتحسين العلاقات معهم"، كما أشار أيضاً إلى أنهم "عرضوا على المصريين وقف البث في القاهرة لمدة عام إذا عملوا على الوصول إلى حل ناجع للقضية الفلسطينية بشكل سريع"، قبل أن يوضح كيف عرضت الدوحة على واشنطن "تخفيف الانتقادات التي تكيلها المحطة للسياسات الأميركية في المنطقة مقابل امتيازات تحصل عليها قطر".

قبل ما يزيد على سبعة عقود، وتحديداً في يناير 1938، أطلقت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) خدمتها العربية، كأول تعبير إعلامي مسموع ينطق بلغة غير الإنكليزية ويستهدف العالم العربي. لم يكن المدير العام للهيئة لورد ريث حينذاك مؤمناً بالفكرة؛ إذ كان يخشى على استقلالية الإذاعة وحيادها، الذي تعتبره أهم ما تملك.

 على أي حال، انطلقت الخدمة، وذهب السفير البريطاني في المملكة العربية السعودية إلى خيمة الملك عبدالعزيز آل سعود، ليسمع معه أول نشرة أخبار باللغة العربية من "بي بي سي". لكن الحاضرين بهتوا جميعاً عند سماع الخبر الثالث؛ إذ كان نص الخبر كما يلي: "تم شنق عربي من فلسطين بناء على أمر من محكمة عسكرية بريطانية، إثر ضبطه وبحوزته أسلحة وذخائر...".

يعلق السفير قائلاً: "صمتنا جميعاً داخل الخيمة، وتفرق جمعنا من دون النطق بأي كلمة". الملك عبدالعزيز أبلغ البريطانيين استياءه الشديد، وأبلغ السفير: "كحاكم، أتفهم أن أولى مهمات الحكومة هي الحفاظ على النظام، لكن هذا الفلسطيني لم يكن ليعدم لو لم تكن السياسة الصهيونية للحكومة البريطانية وراء ذلك".

شعرت الخارجية البريطانية بإحراج شديد، وأحس المسؤولون أن "بي بي سي" ليس فقط لا تساعدهم في عملهم في المنطقة، لكنهم شعروا أيضاً أنها ربما "تعوق عملهم وتضر به"، وهو ما دفع سياسياً بالوزارة إلى الكتابة معلقاً: "هل يجب على الهيئة أن تذيع خبر إعدام كل عربي... هذا غير ضروري بالمرة".

سارعت الدولة البريطانية إلى إطلاق وسيلة إعلام أخرى تنطق بالعربية، في محاولة لخدمة الأغراض الاستعمارية للندن آنذاك، فكانت محطة "الشرق الأدنى"، التي استخدمتها كوسيلة موجهة تروج لسياساتها في المنطقة، فقاطعها الجمهور والمذيعون والصحفيون، وأغلقت. لكن "بي بي سي" لم تغلق، وظلت تعمل وفق سياساتها ومعاييرها المهنية، التي ربما قادتها إلى صدام طارئ مع حكومة ما، أو نزاع طاغ مع أحد السياسيين، أو انتقاد بالغ من قبل طائفة من جمهورها الواسع، لكنها من دون شك كرست مكانة عالمية واكتسبت احتراماً ومصداقية وخدمت المصلحة الوطنية لبلادها.

نعم خدمت "بي بي سي" المصلحة الوطنية لبلادها عبر شبكتها التي تعمل حول العالم بعدد كبير من الدول؛ إذ تروج للقيم التي تتبناها بريطانيا، وتعزز الصورة الذهنية للبلاد حول العالم، وتربط مئات الملايين بها كل يوم وعلى مدار الساعة، لكنها لا تأخذ أوامر أو توجيهات مباشرة من سلطة الحكم، ولا تستخدم كأداة في يد الدبلوماسية البريطانية، ولا تشعر بالتزام ما غير هذا الذي تبديه لجمهورها حول العالم وذاك الذي تخص به ممولها... دافع الضرائب البريطاني.

ليست "بي بي سي" خالية من العيوب والأخطاء، وكثيراً ما تقع، في ظل مهنة شاقة وأجواء ملتبسة، في أفخاخ الانحياز، وترتكب في بعض الأحيان أخطاء مخزية وصارخة، لكن "ويكيليكس" أو غيره لم يستطع اتهامها بكونها مطية أو أداة طيعة في يد الحكومة البريطانية أو غيرها من السلطات.

ليت "الجزيرة" تنأى عن العمل كأداة تخدم تقلبات السياسة، وليت قطر تعلم أن الإلهام والمال والشجاعة وراء إنشاء "الجزيرة" والدفاع عن استدامتها مهنية وحرة، ستعود عليها بفوائد ومزايا أكبر كثيراً من تلك التي يمكن أن تحققها من استخدامها كأداة دعاية أو وسيلة تفاوض أو عامل ضغط وابتزاز.

* كاتب مصري