حاولت أن أجد مرادفاً أكثر دلالة على معنى «التحمّل والاحتمال»، وما يحتاج إليه الإنسان من رياضة روحية دؤوبة للوصول إلى هذه الفضيلة، فلم أجد!
قد تبدو مفردتا «الصبر» و»المجاهدة» في معناهما الأخلاقي أو «الاحتساب» في بعدها العقائدي، أقرب المفردات إلى القصد، لكنها جميعاً تجاور الحالة ولا تتلبسها.في الإنكليزية تأتي كلمة «tolerance» لتدل على المعنى المقصود أي «التحمّل على مضض ومصابرة». وقد شاع لديهم اصطلاح «Religious tolerance» الذي تُرجم إلى العربية:(التسامح الديني)! وأعتقد أن الترجمة يعتريها الكثير من اللبس وعدم الدقة. ففي المجتمعات الغربية إما أن يتقبل الواحد منهم ديانات الآخرين ومعتقداتهم وطقوسهم بأريحية وسعة أفق، وهذا ما تنطبق عليه بحق ترجمتنا (التسامح الديني)، أو ان يضطر إلى هذا التقبل اضطراراً وإن كان على مضض، وهذا هو «التحمّل» (tolerance) الذي نصّت عليه دساتيرهم وقوانينهم المدنية لتضمن حداً أدنى من التعايش السلمي والاحترام المتبادل.بيد أن أعباء الحياة ومزعجاتها الصغيرة والكبيرة التي تتطلب منا التحلي بفضيلة التحمّل والمصابرة لا تقف عند هذا الحد، وإنما هناك مجاهدة مستمرة لكل صنوف الدراما التي تدور حولنا، ابتداءً من أخبار الثورات والمظاهرات، مروراً بضغوط العمل ومتطلبات الأسرة، وانتهاء بمنغصات الطقس والزحام المروري وصغائر الأمور اليومية. كل هذه الأحمال تظل تشعل فينا «الزر الأحمر» ليطنّ بإشارة الخطر، ما لم نتدارك الأمر ونروّض هذا الوحش بتعلم مهارات المجاهدة والمصابرة.قد يرى البعض أن «التحمّل» ينطوي على المعاناة والنصب والصدام والألم وغيرها من معاني العراك والصراع الذي لابد من مكابدته، وقد يرى البعض الآخر فيه لوناً من الخضوع المطلق أمام ظروف وقوى لا تُردّ. بيد أن الحكماء والعارفين الروحانيين يرون في المجاهدة وترويض النفس على فضيلة التحمّل بعداً آخر إيجابياً ومحفزاً لتطوير الذات ونموها.فالمصابرة والمكابدة في رأيهم هي امتلاك زمام النفس والاحتفاظ بالكرامة حين مواجهة الظرف المثير أو الشخص المناوئ، وعدم إتاحة الفرصة لهذا الظرف أو الشخص بأن يلحق الأذى بهذه الذات الثابتة في موقعها الحصين، بمعنى آخر أن تكون أنت سيد الموقف ومسيطراً على استجاباتك التي لابد أن تتدفق بانسيابية مسالمة وآمنة، لا أن تكون عبداً لانفعالات وظروف تخرجك عن السيطرة وتعصرك بألم اللحظة.إن المشكلة في هذا السياق لا تكمن في الموقف الذي نتعرض له، بقدر ما تكمن في عدم القدرة على التعامل بحكمة وتحمّل لتمرير الموقف بأقل شعور من قلة الحيلة ونفاد الصبر. وقد استشهد أحد مدربي رياضة اليوغا والتأمل بمثال تكات الساعة الرتيبة التي تخدش الصمت أثناء ممارسة هذه الرياضة الروحية. فالمشكلة لا تكمن في هذه التكات، وإنما في عدم قدرة الممارس على إسكات هذا الصوت في رأسه وتجاوزه عبر مهارة المجاهدة والمصابرة. ومتى ما استطعنا تعلم هذه المهارة فإننا سوف نتخلص من المشاعر والأفكار ذات الصلة بالموقف المؤذي، وسنرى أنفسنا بمنأى عن مسرح الحدث، وإننا بتنا مجرد مراقبين للمشهد. في هذه اللحظة عليك أن تدع الأمور تنثال بدراميتها المعهودة وتتقبل ما تأتي به أدوار الممثلين على خشبة الواقع، لأنك ببساطة لا تستطيع تغيير شيئاً من هذه الدراما، إلا إذا استطعتَ أن تغير أقدار الحياة!أما ما تبقى من هذا الدرس فيدور حول مسألة التحرر من التوقعات والأحكام الجاهزة على الأمور والأشخاص، لأنه لا يوجد ما هو صحيح أو خاطئ بالمطلق، وعليك أن تتعامل مع ما هو موجود وآني. هذه ليست دعوة الى اتخاذ موقف السلبية، بقدر ما هي محاولة لقطف ثمار المصابرة عبر تغليب مشاعر التسامح والعفو بدلاً من الغضب والنقمة. أن تسمع ولكنك لا تسمع ، أن ترى ولكنك لا ترى، وأن تكون بعيداً وعلى مشارف الحدث ووراءه. الدراما تدور أمامك وأنت تشهدها من علو، متدثراً بالفهم والتعاطف وحكمة الصابرين. إن في اختيار الصمت بدلاً من ردود الأفعال الجامحة لوناً من التحرر من سطوة (الأنا) وظلالها القاتمة، واستشعاراً عظيماً بقدْر النفس وشجاعتها، وفرصة للنظر إلى الأعماق وتحري السكينة والسلام لنا ولمن حولنا.مع المزيد من الدربة على المجاهدة والتحمل، سيتلاشى الشعور بالمعاناة، وسنجد أن الحياة مجرد لعبة تحدٍّ، وإننا نلعبها بمزاج ومتعة.
توابل - ثقافات
العبها بمزاج
15-03-2011