يزعم العديد من الناس أن روسيا تفتقر إلى «المجتمع المدني»، ولكن روسيا تعوض عن هذا النقص جزئياً من خلال خلق مجالات عامة مثيرة للاهتمام، حيث تجري مناقشة مواضيع جدية، وحيث لا تنحصر لمحات العظمة كلياً في المقاطع التي تبثها قنوات التلفاز.

Ad

فقد شهد النصف الأول من شهر سبتمبر اجتماعين متعاقبين لمجموعتين سياسيتين رئيستين في روسيا، «نادي فالداي للحوار»، و»منتدى السياسات العالمية». ولقد جرى الاجتماع الأول على متن قارب ثم انتهى بالعشاء مع رئيس الوزراء فلاديمير بوتين في منتجع سوتشي على البحر الأسود، وجرى الاجتماع الثاني في ياروسلافل ثم توج بندوة مع الرئيس ديمتري ميدفيديف، ولقد انضم العلماء والباحثون والمفكرون والصحافيون (الروس والأجانب) إلى زعماء السياسة وعالم المال والأعمال لمناقشة مستقبل روسيا.

وهناك ثلاثة أمور جعلت من هذين الحدثين مناسبتين غير عاديتين بطريقة روسية بحتة: الأول كان الاهتمام الإعلامي المكثف... والواقع أن حتى أكثر الأكاديميين عزوفاً عن الظهور في المناسبات الإعلامية قد يجد نفسه وقد تحول فجأة إلى أحد نجوم التلفاز في روسيا.

والثاني رغبة كل من بوتين وميدفيديف في الانخراط علناً مع الخبراء في نفس البيئة الفكرية التي يزاول منها الخبراء أعمالهم، ولا أستطيع أن أتذكر زعيماً سياسياً غربياً وحيداً في العقود الأخيرة كان يتمتع بالثقة الكافية للقيام بأمر كهذا غير بيل كلينتون.

والأمر الأخير أن الحدثين شهدا ظهور بلاطين سياسيين متنافسين، ينضح كل منهما برائحة خافتة، ولكن لا لبس فيها، لصراع يلوح في الأفق القريب. ويستطيع كل ذي عينين أن يرى أن المؤتمرين قدما لمحة أخاذة لحكم متداع يمسك بزمامه رئيسان.

كان الموضوع الرئيس لـ»مؤتمر فالداي» يدور حول ما إذا كان تاريخ روسيا وجغرافيتها يحكمان عليها بنظام حكم استبدادي، وإذا كانت الديمقراطية هي موجة المستقبل، فهل قدر روسيا ألا تلحق بهذه الموجة؟

لقد زعم المتشائمون- وأبرزهم المؤرخون الروس- أن روسيا ستجد أنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن تتغلب على إرثها من الاستبداد وحكم الفرد. فقال ليف بيلويوسف من جامعة ولاية موسكو في لومونوسوف إن الاستبداد في روسيا ينهض دوماً من تحت الرماد، كطائر العنقاء الخيالي، مدعوماً بسلبية الروس وقدرتهم على التحمل، فقد ورث البلاشفة الاستبداد من القياصرة؛ وأعاد بوتين اكتشاف المبدأ الملكي القديم المتمثل في تعيين الخليفة، متجاهلاً بذلك مبدأ المنافسة الديمقراطية.

بيد أن الراديكاليين من أمثال فلاديمير ريغكوف رفضوا هذه الحتمية التاريخية، فزعم ريغكوف أننا لا ينبغي لنا أبداً أن نضفي الشرعية على الاستبداد بالاستشهاد بالتاريخ. وكانت الاحتجاجات في تصاعد، إذ إن نير بوتين وليس نير التاريخ هو الذي يخنق روسيا.

إن قدراً كبيراً من هذه المناقشة يفتقر إلى الوضوح، وهو ما تميل إليه مثل هذه المناقشات عادة، فقد فشل أغلب المشاركين في التمييز بين التاريخ بوصفه قيداً والتاريخ باعتباره عاملاً محدداً بالغ الأهمية، فليس بوسع أي دولة أو حضارة أن تتجاوز تاريخها بالكامل: ولكن كل تاريخ يقدم العديد من الاحتمالات المختلفة... فالمجتمعات لا تخضع لبرمجة وراثية مثل الحيوانات.

وكانت المناقشة حول الحكم المطلق والاستبداد محكومة على نحو لا مفر منه بعناصر أخرى، فهناك من يدافع عن الحكم المطلق في روسيا باعتباره ضرورة للإمبراطورية، ولكن هذا يقودنا إلى سؤال آخر: هل تمثل الإمبراطورية ضرورة بالنسبة لروسيا؟ وهل تتمكن روسيا من التخلي عن ماضيها الإمبراطوري وقبول العلاقات العادية مع الدول المجاورة المستقلة حديثاًً مثل أوكرانيا وجورجيا؟ وهل يمكنها أن تلعب دوراً «عادياً» أو «طبيعياً» على المسرح العالمي؟

في اجتماع ياروسلافل مع ميدفيديف، تحول الانتباه نحو الصلة بين الديمقراطية والتحديث. ولقد اتفق الجميع على أن روسيا لابد أن تعمل على تنويع اقتصادها بعيداً عن الاعتماد على الطاقة، وكما أشار ميدفيديف، فإن الاقتصاد القائم على المواد الخام يصبح دوماً عُرضة لتقلب أسعار السلع الأساسية.

ولكن المناقشة اشتملت على وجهتي نظر واسعتين حول العلاقة بين التحديث السياسي والتحديث الاقتصادي، إذ يرى بوتين أن الديمقراطية تنبع من الاقتصاد الحديث، أي أنها بمنزلة نوع من المكافأة عن العمل الجاد، وإذا دفعت الدولة التحديث من الأعلى فإن الديمقراطية ستنمو بصورة طبيعية، ولو ببطء، كنتيجة لتزايد الرخاء وتنامي الطبقة المتوسطة. ولقد اقترح فالديسلاف سوركوف كبير الخبراء الإيديولوجيين لدى الكرملين أن الديمقراطية الكاملة تستلزم وجود الديمقراطية «في الرأس»، مشيراً بشكل ضمني إلى أن هذه الحالة العقلية المرغوبة لاتزال بعيدة المنال في روسيا.

أما وجهة النظر البديلة، التي دافع عنها أشخاص مثل إيغور يورغينز رئيس مركز الأبحاث المفضل لدى ميدفيديف، وهو معهد التنمية المعاصرة، فتزعم أن الديمقراطية تشكل شرطاً مسبقاً للتحديث الاقتصادي، وتتلخص حجتهم في أن الدولة الروسية، بهيئتها الحالية، تفتقر إلى أي حافز حقيقي لإصلاح عاداتها الاقتصادية الرديئة، أو عادات الروس عموماً.

والواقع أن السجل التاريخي يثبت صحة هذه الحجة، فقد أظهرت روسيا قدراً متواضعاً من التعافي من الأزمة، ولكن الساحة تكاد تخلو من الإبداع، فأهل النخبة سعداء بحياتهم المريحة القائمة على عائدات الطاقة، ولايزال الفساد جامحاً بلا رادع. إن بوتين زعيم قوي لدولة ضعيفة، فهي دولة عاجزة عن تنفيذ مشروع التحديث بسبب افتقارها إلى آليات التعبئة أو المشاركة الشعبية.

وهناك خلاف واضح بين بوتين وميدفيديف، الذي أثبت أنه ليس دمية يحركها بوتين كيفما شاء، فكل منهما على اقتناع بأن الديمقراطية آتية إن آجلاً أو عاجلاً، ولكن بوتين يؤكد أنها آتية آجلاً، في حين عمل ميدفيديف على إضافة صوت محرر للخطاب العام في روسيا. ويقول المتشائمون إن كل هذا مجرد خداع، حيث يمارس الزعيمان لعبة «الشرطي الطيب والشرطي الفاسد»، ولكن الكلمات مهمة، واللغة الخطابية الجديدة في حد ذاتها تشكل قوة سياسية.

فضلاً عن ذلك فإن الهدف الاستراتيجي الرئيسي الذي يسعى ميدفيديف إلى تحقيقه لابد أن يتمثل في تأمين ولايته الثانية كرئيس للبلاد، والواقع أنه لا يستطيع أن يتحدى إرث بوتين، ولكن يتعين عليه أن يقدم نفسه كمن يسعى إلى تحقيق ما هو أبعد مما حققه بوتين. وهو لعبة توازن بالغة الصعوبة، وذلك لأن بوتين قادر دوماً على استعادة الرئاسة إذا اعتقد أن ربيبه سابقاً راغب في تفكيك الدولة الاستبدادية التي أسسها.

وبعد مرور تسعة عشر عاماً منذ سقوط الشيوعية، لايزال اتجاه روسيا غير واضح كحاله في أي وقت مضى، وهذا يهم الروس بشكل أساسي، ولكن لأن روسيا تمتد على مساحة شاسعة من الكتلة الأوراسية اليابسة، فإن الافتقار إلى الوضوح بشأن المستقبل يفرض نوعاً من الخوف الدائم على بقية شعوب العالم.

هل تُعَد روسيا جزءاً من الغرب؟ وهل يمنحها تاريخها وجغرافيتها موقعاً أوراسيا متميزاً يجعلها قادرة على لعب دور الوسيط في تصادم محتمل بين الحضارتين الغربية والشرقية، أو بين المسيحية والإسلام؟ الواقع أن روسيا لا تندرج بشكل واضح تحت أي فئة جغرافية سياسية محددة، ولكنها تظل تشكل كياناً أكثر أهمية من أن نتجاهله.

* روبرت سكيدلسكي، عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ فخري لعلوم الاقتصاد السياسي بجامعة وارويك.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»