ما من شيء يُجبر على تكثيف التركيز أكثر من احتمال خسارة شيء قيّم، وتلك هي الحال مع بريطانيا وفرنسا، أعظم إمبراطوريتين في أوروبا سابقاً، في الوقت الذي تتأملان فيه كيفية التشبث بدور لهما في العالم في ظل التخفيضات في الميزانية.

Ad

نشرت الحكومة البريطانية في 19 أكتوبر نتائج مراجعة أُجريت على عجل (وبطلب من الخزانة) للدفاع الاستراتيجي والأمن، وبعد أسبوعين سيزور الرئيس نيكولا ساركوزي بريطانيا للمشاركة في القمة الثنائية الأطراف، وستتصدر أجندة الأعمال الحاجة إلى صقل صداقة جديدة وذات تأثير واسع، فذلك يعكس بالتالي إداركاً متنامياً بأن العقد المقبل سيشهد تقلّصاً دائماً في قدرة أبرز قوتين عسكريتين في أوروبا ما لم تتعاونا عن كثب.

بُذلَت جهود لعقد مثل هذه الاتفاقات في الماضي، لاسيما "إعلان سان مالو" في عام 1998، الذي وقعه توني بلير وجاك شيراك، لكن الخلافات المريرة، لاسيما حول العراق، أعاقت التقدم في ذلك الصدد، يكمن خلف التخوين المتبادل ما يطلق عليه إتيان دو دوران من معهد العلاقات الدولية الفرنسي "نموذج حرب السويس"، فبعد أزمة عام 1956، استنتج الفرنسيون أن عليهم ضمان سلطة ذاتية استراتيجية لتجنب المزيد من الإذلال، بينما استخلص البريطانيون العبرة المعاكسة معتبرين أن نفوذهم يعتمد على الحفاظ على علاقة وطيدة مع الأميركيين.

مع ذلك، لم يضعف بالضبط التزام بريطانيا بـ"العلاقة الخاصة"، لكن حكومة التحالف التي يقودها ديفيد كاميرون أكثر واقعيةً بشأن مدى النفوذ الذي يكسبه البريطانيون في واشنطن من خلال ولائهم. من جهته، حاول ساركوزي جاهداً التخلّص من سرعة الغضب التي طبعت سابقاً العلاقات بين فرنسا والولايات المتحدة بسبب أمور تافهة. فكان لقراره في عام 2009 بإعادة فرنسا إلى بنية القيادة العسكرية في منظمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" بعد أكثر من 40 عاماً أكثر من مجرّد أهمية رمزية، إذ ساهم بتذليل إحدى العقبات الكبيرة التي حالت دون تعاون أكبر مع بريطانيا، فضلاً عن أمور أخرى.

في هذه الأيام، لا يوجد فارق في رؤية كلا البلدين للعالم والمخاطر الناشئة التي تهدد أمنهما، وفي هذا السياق، تتضمن استراتيجية الأمن الوطنية البريطانية والتقرير الحكومي حول الدفاع الفرنسي، اللذان نُشرا في عام 2008، المجموعة عينها تقريباً من الهواجس. ويبدو أن ما يوحدهما أكثر مما يفرقهما، فكلاهما بلدان متوسطان في الحجم مستعدان وقادران على استعراض قوتهما عالمياً، ويظلاّن، على التوالي، ثالث ورابع أكبر البلدان التي تنفق على نظامها الدفاعي في العالم.

لذلك كاميرون وساركوزي عازمان على الاستفادة من قمة الشهر المقبل لإعطاء زخم جديد للعلاقات الدفاعية بين بريطانيا وفرنسا، لكن كليهما يريدان تفادي خطابات النوايا البعيدة الرؤية والحالمة التي قد تثير الشكوك في كلا البلدين، لاسيما بين المحافظين الذي يعارضون الاندماج الأوروبي (بمن فيهم ليام فوكس، وزير الدفاع البريطاني). ستتطرق النقاشات إذن إلى نحو 40 مجالاً مختلفاً للتعاون، لكن بحسب المصادر المطلعة، سيُصار إلى تسليط الاهتمام على الأمور العملية التي توفر المال وتحافظ على القدرات. في هذا الإطار، يقول فرانسوا هيسبورغ، من المؤسسة الفرنسية للبحوث الاستراتيجية: "يجب أن يُحصر التركيز اليوم على تلك الأمور السهلة سياسياً نسبياً، إنما المهمة حتماً". يضيف دو دوران من جهته: "يتعلق ذلك بالمكاسب البراغماتية التي سيحققها الطرفان. إنها علاقة مصالح أكثر منها علاقة التزام".

تحتل اللوجستيات، لاسيما الجسر الجوي البعيد المدى لنقل المعدات الثقيلة، الصدارة في لائحة الأولويات، فقد أشار فوكس ونظيره الفرنسي، إيرفي موران، في وقت سابق إلى استعداده لتسخير وسائل النقل العسكرية من طراز A400M في كلا البلدين والتي يُتوقع أن يبدأ استخدامها في عام 2012، وقد تحظى فرنسا أيضاً بحق استخدام الطائرات السبع من بوينغ C-17 البريطانية، والتي تُعتبر أكبر وأسرع من أي طائرات في الأسطول الفرنسي. من المحتمل أيضاً توقيع اتفاق لتشاطر ناقلات البترول الجوية. تشتري بريطانيا طائرات لنقل البترول من طراز 14 A330 MRTT في صفقة مثيرة للجدل وباهظة الثمن بقيمة 20.6 مليار دولار أميركي في إطار مبادرات مالية خاصة، في حين أن فرنسا تعاني فجوة خطيرة في القدرات مستقبلاً.

كذلك الأمر ثمة مجالات أخرى واضحة للتعاون، منها البحوث والتكنولوجيا حول الطائرات من دون طيار المسلحة والتعامل مع العبوات النافسية مثلاً، وفي مجال التدريب، تتيح فرنسا لبريطانيا استخدام كليتها لتعليم الطيران، أما في ما يخص التموين، فقد تُستبدل البرامج المتعددة الجنسيات المعقدة والمحفزة سياسياً والتي تُحبط بسبب المطالب التي تدعو جميع الأطراف إلى تشاطر الأعمال الإنتاجية، مثل طائرة Eurofighter Typhoon المتعددة المهام، بمشاريع أبسط ثنائية الجانب.

تجري نقاشات أيضاً حول تشاطر بريطانيا منشآت اختبار أنظمة محاكاة الرؤوس النووية الفرنسية، بدلاً من استنساخها بتكلفة باهظة، وفي المقابل، سيبقى الحديث عن قيام الغواصات المزودة بصواريخ نووية في كلا البلدين بتشاطر الدوريات جامدا على الأرجح، لكن ثمّة احتمال بعقد اتفاق بشأن حاملات الطائرات. فقد استبعد فوكس وموران مفهوم طواقم مشتركة من كلا البلدين، لكنهما لايزالان يبحثان في طرق أخرى لتعزيز التفاعل المشترك بين مطار شارل ديغول في فرنسا وحاملتي الطائرات الجديدتين اللتين تعتزم بريطانيا صناعتهما، واللتين ستُستثنيان على الأرجح من مراجعة منظومة الدفاع، فالهدف من ذلك هو الحرص على أن تتوافر حاملات الطائرات في البحر لكلا البلدين، وفي المقابل، يمكن تنسيق مناوبات الصيانة وعقد الاتفاقات المسبقة في الظروف التي يجعل فيها أحد البلدين حاملة طائراته في خدمة الآخر، وإن قرر البريطانيون، كما هو مرجح على نحو متزايد، تجهيز إحدى حاملات طائراتهم على الأقل بمقلاع (ما يسمح لطائرات "رافال" المقاتلة الفرنسية بالإقلاع منه)، سيشكّل ذلك مؤشراً قوياً إلى النوايا المستقبلية.

لكن ما الذي قد ينغّص كل ذلك؟ يخشى دوران من مغبة أن يأخذ السياسيون المدخرات المكتسبة من التعاون الدفاعي ويستخدموها لأهداف أخرى. إن حدث ذلك، فسوف تفقد القوات المسلحة في كلا البلدين جميع الدوافع لإيجاد وسائل جديدة للتعاون، وللمفارقة، سيكون ذلك سيئاً أيضاً إن أُزيلت الضغوط المالية. على حد قول دوران: "على جميع اللاعبين المعنيين إقناع أنفسهم بأن المقاربات الأخرى ليست وشيكة في الوقت الراهن، وأن أي اتفاق ثنائي الجانب هو الطريقة الوحيدة المنطقية للمضي قدماً، لكن في المرحلة المقبلة، سنكون أمام تفاهم أو نسيان للأمر".