يوماً بعد يوم، يتزايد عدد الأشخاص الذين يأخذون عطلات مرضية بسبب معاناتهم من الإجهاد العصبي أو الإحباط أو الاكتئاب. إنما لا يجب الخلط بين المشكلات الثلاث، لأن الأخيرة هي مرض حقيقي له عواقب وخيمة أحيانًا.

Ad

تعريفه

الاكتئاب مرضٌ نفسي يتّصف بالحزن العميق، بانخفاض الحالة المزاجية الى درجة غير طبيعية، بانخفاض درجة الاهتمام بالقيام بأي عمل، بتعب غير مسبوق ومفرط، باضطرابات في النوم، وبأفكار مرضية... تختلف هذه الاضطرابات عن تبدّلات المزاج الطبيعية من حيث شدتها ومدتها (أسابيع عدة على الأقل) وتداعياتها (ألم نفسي، تدهور الأداء الاجتماعي...) والألم المعنوي الناتج منها والمختلف عن التجارب السابقة المعتادة. لا ترتبط هذه الاضطرابات بالضرورة بمشكلة معينة في الحياة، بل ربما بإجهاد عصبي مفرط وطويل الأمد، أو بمراحل معينة من الحياة أو السنة.

لهذه الأعراض الاكتئابية نتائج خطيرة على الأداء اليومي، فهي تؤثر على علاقات المريض مع شريك حياته وعائلته وأصدقائه وفي الوسط المهني.

من الصعب جدًا على المحيطين بالشخص المكتئب أن يفهموا ماهية الاكتئاب، الذي غالبًا ما يكون مصدر إزعاج وقلق لأولئك الذين لم يعيشوه من الداخل. كذلك، من الصعب أن نعرف كيف نتصرّف بشكل صحيح لمساعدة المريض، بينما نسعى في الوقت نفسه الى الحفاظ على أنفسنا وإيجاد موقعنا الصحيح.

يمكن للاكتئاب أن يطاول أي إنسان مهما كان عمره أو جنسه أو مستواه الاجتماعي. ولا تكفي الإرادة وحدها للخروج منه، خصوصًا أن هذا المرض يسبّب شعوراً بالدونية مترافقاً مع أفكار سلبية.

منتشر إنما متجاهل

الاكتئاب أحد الأمراض النفسية الأكثر انتشارًا، لكن38,3% فقط ممّن يعانون منه حول العالم يعترفون بأنهم قد استشاروا اختصاصياً صحياً. وقد تبيّن أن الرجال والشبان والمسنين هم الأقل سعياً الى الحصول على العلاج.

إلى من نلجأ؟

أن نعلم الى أين والى أي اختصاصي علينا أن نلجأ، أمر أساسي. فرعاية المريض اللازمة معقّدة أحيانًا وتتطلب اللجوء الى اختصاصيين.

طبيب الصحة العامة هو عادة أول من يتم اللجوء إليه حين يتعلق الأمر بالمشاكل الصحية. وهو كفوء لتشخيص المرض واقتراح علاج مناسب، أو لتوجيه المريض نحو اختصاصي في الصحة العقلية.

يمكن معالجة الحالة الاكتئابية بواسطة طريقتين: العلاج النفسي والأدوية التي يمكن استخدامها لوحدها أو مترافقة مع العلاج النفسي، وذلك تبعًا لحدّة المرض.

عدم الخلط بين الإجهاد وعوامله

نستخدم أحياناً كثيرة الكلمة ذاتها للتعبير عن حقائق متعددة. هكذا غالباً ما نتكلّم عن الإجهاد العصبي للدلالة على أسبابه: جدل، آلة معطلة، اختناق سير... ليس هذا إجهادًا عصبيًا، بل عوامل إجهاد. الإجهاد العصبي أو ردة الفعل حياله هما مجموع المظاهر (الجسدية والنفسية) التي تحدث في داخلنا نتيجة وجود عامل إجهاد: قلة نوم، شعور بالقلق، معاناة من اضطرابات الجهاز الهضمي، كثرة التدخين...

ثمة جوانب مختلفة لكلمة «إجهاد عصبي»:

- مصادر الإجهاد (أو عوامله).

- ردود الفعل حيال الأحداث المثيرة للتوتر أو الإجهاد العصبي.

- النتائج الطويلة الأمد.

يمثّل الإجهاد العصبي، في حال أسيئت إدارته، عامل خطر مؤكداً للكثير من الاضطرابات الجسدية والنفسية. وردة الفعل الناتجة منه هي ردة فعل شاملة تظهر من خلال مجموعات عدة من المؤشرات:

- فيزيولوجية: مشاعر توتّر غير سارة، ثم إحساس بالتعب: تسارع دقات القلب، ارتفاع ضغط الدم، زيادة التوتر العضلي، تباطؤ وظيفة الجهاز الهضمي...

- سلوكية: يميل المصاب بالإجهاد العصبي الى تظهير سلوك «تلقائي» من الكبت أو العدوانية، وقد يؤدي الى تبديل أو تسريع أو تعطيل السلوك الفردي تبعاً للسياق الموضوعي والشخصية.

- نفسية: يشعر المصاب بالإجهاد العصبي بأنه يتعرّض للاعتداء من محيطه. ويميل عموماً الى تفسير الأحداث والتركيز على المشكلة والمبالغة في تقدير تبعاتها.

- عاطفية: غالبًا ما يرتبط ظهور العواطف العدائية (غضب، استياء، ضغينة، قلق) بالإجهاد العصبي.

تتطوّر مؤشرات الإجهاد العصبي على ثلاث مراحل:  

1 - مرحلة التأهّب: يحشد المرء موارده للمواجهة.

2 - مرحلة المقاومة: في حال استمرت عوامل الإجهاد، تستمر أيضًا مؤشرات الإجهاد العصبي بشكل أكثر تحفظًا ولفترة أطول.

3 - مرحلة الإنهاك: تنهار قدرات المرء ولا يعود قادرًا على المواجهة بفاعلية. وهنا، يصبح ظهور الاكتئاب الحقيقي ممكنًا.

عدم الخلط بين الإجهاد والإحباط

غالبًا، تُستخدم كلمة «اكتئاب» بشكل خاطئ للتعبير عن أية حالة حزن أو كآبة، ما أدى الى تسخيف معناها الحقيقي. يتعلّق الأمر هنا بمرض حقيقي ينبغي عدم إهماله وليس بضعف في الشخصية. على أية حال، هذا موضوع تعريف طبي دقيق يأخذ في الاعتبار مفهوم المدة (تدوم الاضطرابات لفترة تزيد على 15 يومًا) ووجود أعراض معينة هي:

- شعور عميق بالحزن ليس له دافع ظاهر أو حجمه غير متناسب مع الأسباب المشار إليها، يترافق مع بكاء مستمر وقد يؤدي الى الانتحار.

- تباطؤ فكري وجسدي (فقدان العزيمة، فقدان التركيز، تعب مفرط...) مع فقدان احترام الذات.

- ترافق الحالة مع اضطرابات مختلفة كاضطرابات النوم، التوتر أو القلق الشديد، تغييرات في الوزن...

بالتالي علينا أن نفرّق بين هذه العوامل وبين الإحباط أو مرور الشخص المعني بمرحلة حياتية صعبة، حيث يكون الشعور بالوهن والكآبة أمرًا مرحليًا ومرتبطًا بتقلّبات الحياة. وحدها الاستشارة الطبية تسمح بإجراء تشخيص دقيق.

ردة فعل بيولوجيّة

على رغم وجود أفكار مسبقة كثيرة، نستطيع القول إن الإجهاد العصبي ليس بكل بساطة شعورًا بالسوء قد يطاولنا، بل هو ردة فعل بيولوجية حقيقية يثيرها حدث جسدي أو نفسي. في المرحلة الأولى لتلقّي محفّزات الإجهاد، يتفاعل الجسم عبر إفراز الأدرينالين الذي يساعده على التكيّف: يرتفع معدّل ضربات القلب لإمداد العضلات والأنسجة بالأوكسيجين بشكل أفضل، ويفرز الكبد مادة السكر لتعويض انخفاض المعدل الذي حدث. قد يكون التوتر في بعض الحالات محفزًا. يتوقف الأمر على الطريقة التي يدار بها هذا التوتر والتي يتصرف بها الأشخاص حيال ما يشعرون به من عواطف.

انتباه!

في حال استمرّ التوتّر لفترة طويلة، يصبح الجسم عاجزًا عن إيجاد الموارد اللازمة لمواجهته فنصبح حينها في حالة من التوتر المفرط إذا لم نعالَج منها فقد يتبعها اكتئاب أشدّ وطأة.

علاجات

لمعالجة الاكتئاب ثمة طرق عدة يمكن اتباعها في الوقت نفسه:

1 - العلاج الألوباتشيكي:

العلاج بواسطة مضادات الاكتئاب أمر واسع الانتشار. في الواقع، تعمل مضادات الاكتئاب على السيروتينين الشهير وعلى ناقلاتنا العصبية. تحتاج هذه الأدوية الى بعض الوقت قبل أن تصبح نافذة المفعول، خصوصًا أنها تحتاج الى مرحلة أولية يتم خلالها التأكد من كون الجرعات المعطاة مناسبة أو من عدم ضرورة تغيير نوع الدواء. يجب أن يتابَع المريض عن قرب نظرًا الى وجود مخاطر عالية لإدمان هذه الأدوية. إضافة الى ذلك، لا ينبغي إيقاف العلاج بشكل مفاجئ فهو طويل الأمد يستمر لأشهر عدة قبل التمكّن من العودة الى وضع طبيعي. على رغم ذلك يشعر المريض بأنه أفضل حالاً بشكل واضح وبسرعة كبيرة.

كذلك، يوصف الليثيوم للمرضى الذين يظهرون أعراض الهوس الاكتئابي. فهو فاعل جدًا على رغم صعوبة قياس جرعاته وعدم وضوح طرق عمله حتى الآن.

2 - العلاج النفسي

يُنصح به للمراهقين كما للراشدين. لا يتم اللجوء إليه أبدًا كعلاج وحيد في حالات الاكتئاب الحاد، إذ من الممكن البدء بتحليل نفسي، أو اعتماد منهج يركّز على العلاج السلوكي الإدراكي. إنما ينبغي في الأحوال كافة أن يكون المريض راغبًا في سلوك هذا الطريق، لأن الأمر يتعلّق فعليًا بالمواكبة.

يرى الأطباء النفسيون أن الاكتئاب هو تراجع الأنا الشهير، الذي نجد أسبابه في الطفولة. وكان قد سبق لفرويد أن وصف الاكتئاب بأنه «عصاب نفسي نرجسي» يمنع المريض من الحب والعمل بشكل طبيعي.

هل دخول المستشفى للعلاج إجباري؟

من النادر جداً اللجوء الى إدخال المريض المستشفى للعلاج، إلا أن ذلك قد يحدث في حالات تردي العلاقات العائلية الكبير، أو في حال وجود خطر في أن يلجأ المريض الى الانتحار.

3- الطرق الأخرى

يعطي الأطباء نصائح أخرى أيضًا، لكن لا يمكن اعتمادها إلا حين يتم علاج الاكتئاب بالفعل، ويكون المريض قد أصبح على طريق الشفاء. في الواقع، آثار النشاط البدني الإيجابية واضحة. فاستعادة إدراكنا لأهمية جسدنا أمر هام يسمح لنا بالعودة بفاعلية الى عالم الأحياء. فمن المعلوم أن ممارسة الرياضة حتى ولو لمدة قليلة تؤدي الى إنتاج الأندروفين الذي يؤدي الى رفع المعنويات بطريقة طبيعية.

يبيِّن لنا الاكتئاب الموسمي أن للنور أيضًا تأثيراً على المعنويات ومن الأفضل ألا نبقى بين أربعة جدران. في الواقع، حين نكون في مرحلة المعاناة من الاكتئاب نظهر ردة فعل معاكسة تماماً، إذ نرغب في البقاء بلا حراك وفي مكان مظلم إن أمكن. فالخروج إذاً يعني أننا بتنا على الطريق الصحيح.

كذلك، السفر الى مكان مشمس علاج ناجع لمعاناتنا من الإحباط، مكلف إنما فاعل جداً.

التغذية ضروريّة

العلاج كما ذكرنا مهم جداً للشفاء من الاكتئاب، لكن ذلك لا يمنع من الترفيه عن النفس بصحبة العائلة أو الأصدقاء المقرّبين. بالإضافة الى أن الكلام علامةٌ جيدة، فليس ثمة أسوأ من السكوت الذي يميل المرء إليه حين يشعر بالتوتر. كذلك، التحدّث مع الطبيب أمر ضروري، فهو يستطيع الإجابة عن أسئلة المريض ويشدّد على أن فقدانه لقوة الإرادة أمر موقت.

تبقى التغذية ضرورية، إذ يميل المكتئب، إما الى عدم الأكل بشكل كافٍ، وإما الى المرور بمراحل من الشراهة. لذا يجب قدر الإمكان الحفاظ على تغذية متوازنة، خصوصًا في ما يتعلّق بالفيتامينات والأحماض الأمينية. إذ يساهم الضعف الجسدي في زيادة الإحساس بالسوء.

ماذا عن مضادات الاكتئاب؟

هي من عائلة المؤثرات العقلية، وقد عرفت تغييرات كبيرة منذ ظهورها في منتصف القرن العشرين. تعمل هذه المضادات على رفع المعنويات وتنشّط المريض وتساعده على الخروج من حالة الاكتئاب التي يعاني منها.

تنقسم مضادات الاكتئاب الى عائلات عدة:

- مثبطات امتصاص السيروتونين أو الـ «أر إي أس أس»، ونجد من بينها أدوية معروفة نسبياً كالبروزاك والزولوفت.

- الـ «أس أن أر إي» ولها مواصفات العائلة السابقة نفسها.

- الـ «إي أم آ أو» (مثبطات المونوامين أوكسيديز) كما المضادات ثلاثية الحلقات تحدث تغييرات في ناقلات عصبية غير معنية مباشرة، وقد تكون لها آثار جانبية غير مرغوب فيها أحيانًا، كذلك تحتاج الى رقابة غذائية. لا تُستخدم هذه المضادات إلا لمعالجة حالات الاكتئاب الحادة نسبيًا. يُمنع تناولها مع الـ «أر إي أس أس» أو الـ «أس أن أر إي».

- المضادات الثلاثية الحلقات مثل الأنافرانيل والاتيميل، هي أول مضادات اكتئاب استُخدمت للعلاج، لكنها كانت تشكّل مصدر قلق في حالات مشاكل القلب وارتفاع الضغط.

علاجات أخرى

- ثمة دائماً مضادات اكتئاب جديدة ترى النور، ويمكن تعريفها بأنها ذات «عمل مزدوج». يتعلّق الأمر بجزيئات جديدة مثل الميرتازابين أو الميلناسيبران الذي له آثار جانبية محدودة.

- لا تُستخدم مضادات الذهان إلا إذا كان المريض بحالة سيئة جدًا أو فقد صلته بالواقع.

- أصبحت المهدئات أمراً تقليديًا وهي تستخدم عادة لمعالجة نوبات القلق.

من الضروري أن يطلب المريض من طبيبه أن يشرح له ماهية العلاج وما الجزيئات المستخدمة وتأثيراتها. في الحقيقة، ينبغي أن يكون المريض مقتنعًا بأن العلاج ليس مضرًا وبأن مضادات الاكتئاب لا تعمل بطريقة بعض العقاقير السامة نفسها والتي تحتاج الى جرعات أكبر بشكل دوري للحصول على النتيجة ذاتها. فليس ثمة أية مدعاة للقلق في هذا الشأن. ينبغي فحسب أخذ الاحتياطات اللازمة حين يتقرَّر إيقاف العلاج، لأن ذلك يجب أن يتم تدريجاً.