لست وحدي في الهواء

نشر في 23-11-2010
آخر تحديث 23-11-2010 | 00:00
 طالب الرفاعي عرفته أديباً مبدعاً قبل أن أتواصل معه إنسانياً وثقافياً في منتصف السبعينيات. في تلك السنوات، كنتُ كمن عثر على كنز. وجدت فيه مبدعاً يملأ الهم الثقافي والإبداعي العروبي جوانح روحه. وكان نموذجاً للمبدع المثقف الطليعي، الذي اتخذ من الفكر الإنساني درباً لمسيرته الحياتية، إضافة إلى دماثة خلقه وتواضعه الجم، وإقباله على الصداقة والعطاء دونما نظرٍ أو حساب لجنسٍ أو جنسية أو عمرٍ أو مذهب. وكان بالرغم من نجوميته، لا يملّ السعي إلى الوصل بالأدباء الشباب، وفتح نقاشات وحوارات معمقة معهم.

دارت الأيام دورتها، ولم تكن خيرة في ما حملت لوطننا العربي من مآس ومواجع ومحن، لكن صاحبي ظل حاملاً لهمه الإبداعي ذاته، وظل كذلك على وصله الكريم بمن حوله، لم يزده تقدم العمر إلا تواضعاً وانفتاحاً على الآخر إنساناً وفكراً.

منذ السبعينيات والوصل الثقافي والإنساني يجمع بيننا، نلتقي بين آن وآخر، ولحظتها ينبعث ودٌّ إنساني يبلل أرواحنا العطشى للقاء والنقاش. بسبب مشاغل الحياة الصغيرة التي تأكل أيام أعمارنا، تأخرت عن زيارة صاحبي لفترة ليست بالقصيرة، وحين زرته الأسبوع الماضي، استقبلني كعادته بترحيبه الحار، لكنني قرأت في عينيه نظرةً، أرسلت شرارة خوفٍ مسّت قلبي. وما لبث أن همس بي يقول:

«تعبت».

بقيت أنظر إليه، فما عهدت صاحبي شاكياً ولا عهدت به ضعفاً، لكنه أضاف:

«كأني لا أطيق نفسي».

وقفت شربة الماء في بلعومي. كيف لباعث الأمل أن يكون يائساً؟ وكيف لمن وهب نفسه للعطاء، يجزع من نفسه؟ وكيف لي أنا الذي تعودت أن استمد جزءاً من قوتي منه أن أراه يهبط من سماء قوته، إلى أرض ضعفه وانكساره؟

فجأة انتبهت أن شمس الغروب تدخل علينا من نافذة مكتبه الواسعة، ولأنني، ومنذ صغري، لا أطيق لحظات الغروب، تمنيت لو أطرد الشمس المريضة عن صحبتنا. بثّني وجعه:

«تكسرت الأحلام، وتبخرت الآمال».

كنت أستمع إليه، وقد تضعضع بعض حسّه، قال:

«عشت وجيلي، آمالاً عراضاً، وكنا نحلم بوطن عربي حر من المحيط إلى الخليج، وتصورنا يوماً أننا سنقطع الوطن العربي دون جوازات سفر، ودون حدود كريهة، وأننا سنحطم السجون».

وغصّ بوجعه، وهو يقول:

«كم من النساء والرجال دفعوا أعمارهم الغالية ثمناً لسراب حلم كاذب؟ وكم كانت تضحياتهم موجعة؟».

استوقفته فلقد دارت المرارة في قلبي، قلت:

«هي الأيام، تدور دورتها، ولابدّ أن يأتي الضياء».

وقلت:

«إن تكون الشعارات قد سقطت، فإن الصدق والحب والخير والسلام والحرية والديمقراطية والفن الإنساني المبدع، باق ولن يزيده الظلام إلا مزيداً من الألق والحضور».

توارت شمس المغيب، وأضاء صاحبي مصباح جلستنا، ودار حديث طويل بيننا، كنتُ أصرّ على الأمل وعلى قدرة الخير وصموده في وجه الشر والعدوان، وأن صداقة الإنسان للفن والأدب لا يمكن لها أن تنفك. لكن صاحبي وهو يودعني قرب الباب، همس بي:

«أعرف أن ما تقوله صحيح، لكنني فقدت لهفتي على الغد».

صفعتني جملته. ودعته، ولحظة انغلق الباب بيننا، وخطوت نحو سيارتي، شعرت بأنني بحاجة إلى أن أمشي في الهواء. 

back to top