العطاء الضخم لغازي... لن تفي به المراثي وحدها!

نشر في 26-08-2010
آخر تحديث 26-08-2010 | 00:01
 أ. د. محمد جابر الأنصاري لعله قد حان الوقت للانتقال إلى دراسة غازي القصيبي وتقييم نتاجه، فالرثاء حالة آنية. أما التقييم المستند إلى الدراسة والبحث فهو لكل المواسم وكل الأجيال.

وعلى الصعيد الشخصي، كنت في الأيام الأخيرة على تواصل به، رحمه الله، بالزيارة وبالهاتف، وكان بإمكاني الحديث عن ذلك مطولاً، لكني رأيت أن ذلك لا يغير قليلاً أو كثيراً من قيمة عطاء غازي ومكانته. وعندما أقيم مجلس العزاء لوفاته في البحرين حرصت على الوجود فيه للأيام الثلاثة التي ظل فيها ذلك المجلس مفتوحاً، كما لم أفعل مع أي راحل عزيز عليّ.

لقد أحسست أن الرثاء في بلادنا نوع من المجاملة. وغازي بالذات تستحق ذكراه الطيبة كل إطراء، لكني تذكرت أيضاً راحلين كبيرين من فرسان الكلمة هما الطيب صالح ومحمد عابد الجابري، رحمهما الله، لم أرثهما ولي آراء نقدية بشأنهما أبديتها، بالمناسبة، للراحل الكبير غازي على الهاتف بعد عودته العلاجية من الولايات المتحدة فقال لي اكتب هذه الانتقادات. فقلت إني أنتظر مرور الوقت، كي لا يتخالط الرثاء بالتقييم.

إن دراسة غازي القصيبي وتقييم نتاجه لابد أن ينطلق، في تقديري، من المسائل التالية:

1 - مدى تأثير المرحلة البحرينية في تكوينه ونتاجه: لقد جاء غازي إلى البحرين مع والده وأسرته بقيم السعودية وصلابة مبادئها- وذلك ما منحه الثبات والصلابة- لكنه تفاعل مع جديد البحرين التي كانت تنفتح على العصر والعالم. كان والده عبدالرحمن القصيبي ممثل الملك المؤسس والموحد عبدالعزيز آل سعود، الذي كان يتمتع بشعبية واسعة في البحرين. وكان حكام البحرين من آل خليفة يعتبرون الخليج العربي سوقاً موحداً مفتوحاً لجميع أبنائه. ونظراً لهذا الانفتاح غير المسبوق أصبح عبدالرحمن القصيبي رئيساً لأول تنظيم تجاري في البحرين، وكانت «الجالية النجدية» تمثل صمام الأمان ونقطة التوازن في مجتمع البحرين. فبالرغم من السيطرة البريطانية التي لم تكن ترتاح لوجود السعوديين في البحرين، فإن حكامها لم ينظروا لأي سعودي باعتباره غريباً. وفي ظل هذه الأجواء الودية المنفتحة وجدت عائلة القصيبي- مع غيرها من العوائل السعودية في البحرين مجالاً مناسباً للعمل التجاري.

وعندما جاء غازي إلى البحرين من الإحساء التي ولد بها- وهو ابن الخامسة التحق بداية بالمدرسة «الشرقية» الابتدائية وتفاعل مع طلبتها البحرينيين، ثم انتقل إلى المدرسة الثانوية، التي كانت الثانوية الوحيدة في البحرين، وزامله فيها كاتب هذه السطور. وأذكر أنه كان يلقي خطبة الصباح في طابور الصباح لتفوقه في اللغة العربية والإلقاء الفصيح. ولم أكن أعلم- إلا بعد أن تصفحت دواوين شعره- أنه نظم الشعر وهو في السادسة عشر من العمر. ومنذ ذلك الوقت لم أكن في الواقع استسيغ الشعر «الرومانسي»!... لذلك فلم أنجذب إلى شعره كثيراً. وكان غازي، لأسباب عائلية وسياسية، لا يستطيع البوح في حينه بحقيقة مواقفه إلا من خلال ذلك الغزل الرومانسي.

وقد ظل غازي يتفاعل مع جديد البحرين ويتأثر به، وهو مرتبط بقيم السعودية، موطنه الأول، وصلابة أرضه. وكما أرى فالشخصية الجماعية لهذه المنطقة، أي الجانب العربي من الخليج، تمثل اللقاء بين صلابة الصحراء العربية وحركية التموج الخليجي. وكانت شخصية غازي القصيبي تمثل «توليفة» بين هذين العنصرين، وذلك ما حافظ عليه في كتاباته، وطوال حياته. وثمة شواهد كثيرة في كتبه تؤكد هذه الناحية يمكن للباحثين استخراجها. وأعتقد أنه ليس من المبالغة وصفه بأنه «قطرة ندى» بين السعودية والبحرين، حسبما عنون الكاتب البحريني الراحل الدكتور مكي محمد سرحان، رحمه الله، كتابه عنه الذي أصدره عام 1997م.

2 - اكتشافه لموهبته الحقيقية في الكتابة نثراً: من حسن الحظ أن غازي القصيبي اتجه إلى كتابة الرواية (حوالي عام 1993/1994) عندما أصدر روايته الأولى «شقة الحرية». وكان غازي قد كتب قبل ذلك مقالات وألقى محاضرات منذ أواخر ثمانينيات القرن المنصرم (أصدرتها «تهامة» في كتب) يتضح من خلالها أن أديبنا متمكن أيضاً من الكلمة السهلة «النثرية» المباشرة، بل إنه أكثر إبداعاً في كتابة النثر. ولدي رسالة بخط يده رحمه الله، في الفترة التي ألقى فيها محاضرته اللافتة (هل للشعر مكانة في القرن العشرين) ورددت عليه بمقالة (أي شعر يمكن أن تكون له مكانة في القرن العشرين؟). في تلك الرسالة يعترف غازي بتواضع أنه لا يعتبر نفسه شاعراً من الدرجة الأولى- وذلك اعتراف غير معهود في معشر الشعراء!- وأنه ربما كان شاعراً من الدرجة الثانية أو الثالثة!

وقد سبق أن تعرضت بالنقد لأول وأهم روايتين هما: «شقة الحرية» عام 1994 «والعصفورية» عام 1996.

وبالنسبة للرواية الأولى انشغل البعض بالبحث عن الشخصيات «الحقيقية» فيها، رغم أن كاتبها قد احتاط لهذا الاحتمال العقيم بالتنبيه إلى أن: «الكاتب في القاهرة في الفترة التي تتحدث عنها الرواية. ومع ذلك فجميع أبطال هذه الرواية وجميع أحداثها من نسج الخيال والوقائع المنسوبة إلى أشخاص حقيقيين هي، بدورها، من صنع الخيال، وأي محاولة للبحث عن الواقع في الخيال، ستكون مضيعة لوقت القارئ الكريم».

وحقيقة الأمر أن غازي القصيبي قد «تحرر» من شعره «الإيحائي» الرومانسي الغزلي، وإن لم يهجره! ووجد في الأسلوب الروائي وسيلة أجدى للتعبير عن آرائه. يقول آرثر هيلبس Arthur Helps: «إن أردت فهم عصرك اقرأ الأعمال الروائية التي كُتبت فيه، فالناس ليتكلمون بحرية من وراء الأقنعة». وهو بذلك قد مهّد الطريق لظهور أعمال روائية أخرى في البيئة السعودية بإمكان مؤرخي الأدب أن يتابعوها.

أما الكتاب الثاني «العصفورية»، فقد ألمحت إلى أنه: «سيخطئ أي ناقد أو قارئ إذا اعتبره «رواية» أو «رواية فانتازية» بالأخص وذلك (لتبريرات) شكلية تتعلق بالتكتيكات السردية التي لجأ إليها هذا المبدع- والذي تمخض هنا عن مفكر كبير- من أجل «تمرير» ما أراد قوله بصدق جارح لذيذ (جارح في حقيقته العارية، ولذيذ في سخريته العميقة وفكاهته العفوية النادرة) عن مجمل الواقع العربي بتشابكه وتعقيده في الحقبة الحزيرانية بخاصة، والحقبة المعاصرة بشكل أعم. هذا بالإضافة إلى نظرات في الشأن الإنساني والعالمي... وإن كنت أشك في قدرة أي مترجم على ترجمته لأن نكهة وخصوصية أسلوبه العربي تستعصي على أية ترجمة». «إن العصفورية في عنوان كتاب القصيبي ليست مستشفى الأمراض العقلية الشهير بلبنان، وإنما هي (البيت العربي) بين محيط وخليج في عصر اللامعقول... الذي يعانيه العرب ويعصف بوعيهم الغائم»- محمد جابر الأنصاري، مساءلة الهزيمة، المؤسسـة العربية، بيروت، 2001، ص 132.

في هذه الرواية تحرر غازي نهائياً من أسلوب الشعر، وأثبت أنه ناثر كبير، وهي حاجة ملحة للعرب في عصرنا، حيث لم يعد الشعر: «ديـوان العرب» لأن النثر أصبح منطق العصر!

3 - نزعته الإصلاحية: منذ أشعاره الأولى إلى كتاباته الأخيرة- رحمه الله- وهو يدعو إلى الإصلاح في ظل الدولة الحديثة. وكان الاثنان: الدولة والإصلاح من ثوابت فكره. وقد ربط القول والفعل، واتصف ببراءة الذمة ونظافة اليد في كل ما تولاه من أعمال حكومية.

وفي سنواته الأخيرة، كان في سعادة غامرة لعمله وزيراً في ظل توجيه الملك المصلح عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود.

ولن يكتمل تاريخ نزعة الإصلاح في المملكة العربية السعودية إلا بتتبعها عبر روادها، وقوفاً عند آثار المغفور له، بإذن الله، الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري وغازي بن عبدالرحمن القصيبي اللذين فقدناهما اليوم معاً. وننتظر مواصلة رسالتهما في العهد الميمون.

* مفكر من البحرين 

back to top