شرعية الاختلاف

نشر في 16-08-2010
آخر تحديث 16-08-2010 | 00:01
 د. عبدالحميد الأنصاري رمضان شهر كريم ومبارك وهو شهر الخير والتسامح والمحبة، شهر الصفاء النفسي والمجاهدة الروحية لمحاسبة الذات وتقويم السلوك ومراجعة الإنسان المسلم لعلاقته بربه وعلاقته بالناس جميعاً، لكن المشهد السياسي العام عبر الساحتين العربية والإسلامية لا يترجم قيم وآداب هذا الشهر الفضيل على أرض الواقع في سلوكيات وعلاقات وأقوال تتناسب والمعاني السامية لهذا الشهر الفضيل، تجد على امتداد الساحة صراعات دامية بين أبناء الوطن الواحد، وتفجيرات ضحاياها أناس أبرياء، وفتاوى دينية تكفِّر وتخوِّن المخالفين، ومنابر متعصبة تحرِّض وتبث الكراهية ضد الآخرين، وقنوات فضائية ومواقع إلكترونية متشددة ذات ثقافة أحادية تريد فرضها على الناس.

تتزايد معاناة مجتمعاتنا على امتداد الساحة من تصاعد موجات العنف والتطرف، وهي إن اختلفت في حجمها ومستواها من مجتمع إلى آخر إلا أنه يجمعها رابط فكري واحد، هو ثقافة الكراهية والضيق بالرأي الآخر؛ فإخوة النضال الفلسطيني وصلت بهم الكراهية وعدم الثقة إلى فتك بعضهم ببعض، ورغم كل المحاولات التي بذلت فإنها عجزت أن تضع حداً للانقسام ولا يبدو في الأفق ما يشير إلى أي حل قريب، و"حزب الله" في لبنان مازال يراهن على سلاحه ويستقوي به على الأطياف السياسية اللبنانية، وهو يهدد من الآن ضد القرار الظني للمحكمة الدولية إذا مس أحد أتباعه.

قارن ما يحصل عندنا بما هو حاصل على الساحة الأخرى في الغرب، تجد القوم هناك منشغلين بالإنتاج والتنمية وما يسعد الإنسان ويطور الحياة ويعين البشرية على متاعبها وآلامها وأمراضها، ولكن ما العلة في اختلاف الوضع في مجتمعاتنا عن أوضاع المجتمعات التي تصنع الحياة والتقدم؟! لا جواب عندي غير أن المتقدمين قد توصلوا إلى حل معضلة الاختلاف بينهم فاعترفوا بشرعيته وجعلوا هذه الشرعية- شرعية الاختلاف- منهجاً حياتياً راسخاً، يربون ناشئتهم عليها، ويغرسونها عبر منابر التعليم والتوجيه والإعلام ويترجمونها نظاماً سياسيا حاكماً ويعيشونها مناخاً اجتماعياً عاماً، بينما الحال عندنا ليست كذلك، إذ مازالت قطاعات مجتمعية عريضة ونخب ثقافية ودينية وسياسية مهيمنة، تضيق بالرأي الآخر وتحاول قمعه وتمارس الإقصاء ولا تقبل التعددية الثقافية والسياسية والدينية، تحتكر الوطنية والدين فتسارع إلى التخوين والتكفير وتوزيع الاتهامات بالعمالة والخيانة.

منابرنا ومؤسساتنا ومناهجنا التعليمية والثقافية والدينية غير معنية بتأسيس وترسيخ شرعية الاختلاف في البنية المجتمعية، الأسرة العربية لا تمارس دورها المطلوب في تعويد النشء على ثقافة الحوار واحترام الرأي الآخر وقنواتنا الفضائية لا تساهم بشكل إيجابي في غرس ثقافة التعددية وتوظيف الاختلاف والتنوع لخدمة المصلحة المشتركة، وهكذا يستمر العرب أسرى عقلية التخاصم والتصادم حتى يعترفوا بشرعية الاختلاف، وحتى يدركوا أن الاختلاف إرادة إلهية عليا وضرورة إنسانية وحضارية، البشر مختلفون في جوانب الحياة والثقافة والفكر كافة، وهم يختلفون في الأديان والمعتقدات واللغات والقوميات فضلاً عن اختلافهم في المصالح، لأن الله خلقهم مختلفين في عقولهم وطبائعهم ومشاربهم وأمزجتهم، وكما أن "قانون التغير" حقيقة ثابتة ومستمرة فكذلك "قانون الاختلاف" حقيقة أخرى ثابتة ومستمرة، أكدها القرآن الكريم في العديد من آياته وذلك لحكمة معجزة، نجد مصداق ذلك في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ"... تقرر هذه الآية الكريمة حقيقة ثابتة، أن الاختلاف إرادة إلهية بهدف تحقيق "التعارف" بين البشر، والتعارف -هنا- كلمة بليغة تشمل شتى أنواع التواصل بين البشر، بما يمنع من فرض ثقافة واحدة أو فكر واحد أو نظام سياسي واحد أو حتى عقيدة واحدة أو دين واحد على البشر جميعاً، وقد أكد هذه المعاني، قوله تعالى في موضع آخر: "وَلَوْ شَاءَ رَبّك لَجَعَلَ النَّاس أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبّك وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ"، أي خلقهم من أجل أن يختلفوا فيحتاج بعضهم إلى بعض، فيتعاونوا ويتنافسوا من أجل الارتقاء بالحياة، لأن التعاون والتنافس والتحاور إنما تكون بين المختلفين والمتغايرين لا بين المتساوين والمتشابهين، وذلك لوجود الاحتياج عند الأولين وانتفائه عند الآخرين، وقد امتن القرآن علينا بحكمة الاختلاف والتنوع في قوله تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرض وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ".

ومقتضى ذلك، أن الذين يسعون إلى فرض وإخضاع البشر لثقافة واحدة أو نظام واحد أو فكر واحد أو حتى حضارة واحدة إنما يعملون ضد إرادة الله ومشيئته في استمرارية الاختلاف والتنوع والتعدد، ومن البديهي أن تتنوع الثقافات والأفكار والرؤى والعادات والتقاليد حتى ضمن المجتمع الواحد، ويتعدى الأمر إلى تنوع مذهبي وديني وسياسي ولغوي وعرقي، ولا يمكن إلغاء الاختلاف أو القضاء على التعددية بأي شكل من الأشكال، لأن هذا يناقض الواحد ويخالف الطبيعة، وبالتالي فإن محاولات إجراء عمليات المنع والإلغاء للآخر، كلها فاشلة، وعندنا التجربة الشيوعية التي استخدمت القوة والقهر لإلغاء كل ما هو غير شيوعي، لكنها انهارت ولم تستطع إلغاء الآخر بالرغم من هيمنة الشيوعية أكثر من 70 سنة، وهذا يؤكد أنه لا خيار في ظل التعددية والاختلاف إلا باحترام الآخر والإقرار بوجوده وشرعيته، فهذا وحده الكفيل ببناء مجتمع متماسك يستمد قوته من احترام كل طرف للآخر، إن حق الاختلاف سواء في المعتقد الديني أو الرأي الفكري أو السياسي، مؤسس ومؤصل بجملة من المبررات القوية، منها:

1- المبرر الديني: إن أقوى مبرر يؤسس لشرعية الاختلاف هو القرآن الكريم نفسه في العديد من نصوصه السامية السابقة، والتي قال عنها المفسرون: خلق الله الناس ليختلفوا ويتنافسوا من أجل إعمار الأرض وإثراء الحياة، وقد أشار القرآن الكريم في آيات أخرى إلى بقاء هذه الاختلافات إلى يوم الفصل، مؤكداً أن الله سبحانه وتعالى هو الذي سيفصل فيها يوم القيامة، الرؤية الدينية والقرآنية بوجه خاص مع شرعية الاختلاف كحق مقدس يجب على المسلمين حمايته والدفاع عنه.

2- المبرر الحقوقي: مبدأ الحق في الاختلاف، مبدأ ينتمي إلى مبادئ الجيل الثالث لمنظومة حقوق الإنسان، وهي مبادئ تعترف صراحة لجميع الثقافات البشرية بكونها متعادلة ومتساوية، وهذا الإقرار العالمي بالحق في الاختلاف، يشكل دعامة قوية للنظام الديمقراطي ويسهم في تنمية روح التعاون بين الشعوب والحوار المثمر بين الثقافات.

3- المبرر الثقافي والإنساني: إن حق الاختلاف يولِّد تراثاً ثقافياً يثري الحياة والفكر ويساعد على رقي الإنسان وتقدم المجتمعات عبر عمليات التواصل والحوار الحضاري والثقافي الخلاق، فالثقافة لا تنمو ولا تتطور إلا في إطار احترام الخصوصيات والتنوعات كافة، لقد خلق الله البشر مختلفين ولم يجعلهم نسخة واحدة متطابقة وإلا استحالت الحياة.

4- المبرر الكوني والعقلي: الكون كله قائم على الاختلاف والتنوع والتعدد: السماوات والأرض، المجرات والأفلاك، النجوم والكواكب، الليل والنهار، التنوع البيئي والنباتي والحيواني، الذكورة والأنوثة، إلخ، وكما تكون التعددية جبرية كسُنّة كونية تكون كذلك اختيارية نتيجة قابلية الإنسان للصور المتعددة من السلوك التي يختار من بينها بإرادته الحرة، وعندما خلق الله سبحانه للإنسان العقل فإنما أراد منه أن يفكر ويبدع في جميع جوانب الحياة، ولأن الإنسان كائن عاقل فمن حقه بعد ذلك أن يفكر ويستثمر عقله في تطوير حياته، وحق التفكير يعطي للإنسان حق الاختلاف.

5- المبرر التاريخي والأخلاقي: على مر التاريخ الإسلامي نجد حق الاختلاف متجسداً في التعددية الدينية والفكرية والسياسية في المجتمعات البشرية كافة، فلم توجد دولة واحدة حكمت العالم وسيطرت عليه دائماً، وفي هذا معان للتدافع والتوازن الدولي كما أشارت إليه الآية: "وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ"، وعلى مستوى التاريخ الإسلامي نجد التعددية قائمة على الصعيدين العَقَدي والفقهي، فعلى الصعيد العَقَدي وجدت فرق وملل ونحل عدة داخل إطار الإسلام، وعلى المستوى الفقهي وجدنا الخلافات الفقهية والمذهبية، ما جعل الفقهاء يقولون: الاختلاف الفقهي رحمة، ويضيفون: لا إنكار في مسائل الخلاف، أي لا يجوز لفقيه أن يفرض رأيه على الآخرين في مسألة فقهية خلافية، حق الاختلاف يجد مبرره الأخلاقي في كون مصادرته وإلغائه، نوعاً من الوصاية غير الأخلاقية على الآخرين، وهي وصاية استبدادية لا سند لها غير الطغيان، وغير الأنانية المدمرة للذات.

6- نسبية الحقيقة المعرفية: لا أحد يملك الحقيقة المطلقة أو الصواب المطلق في ما يتعلق بالأفكار والأحكام والآراء المتعلقة بمجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع، بل حتى في مجال النظريات العلمية، فكثير من الأفكار والنظريات والحقائق التي قررها العقل الإنساني في مرحلة زمنية معينة وفي إطار مجتمعي معين، هي نسبية متغيرة بتغير الزمان والمكان، ولا يوجد من يستطيع الادعاء بأن رأيه هو الأخير في قضية ما، وهذا نابع من أن الحلول التي يطرحها الإنسان هي حلول محكومة بقدرته العقلية في سياق ثقافي واجتماعي معين، فإذا تغيرت المعطيات تغيرت الحلول.

ختاماً، إن الاعتراف بشرعية الاختلاف هي الضمانة الأساسية لتفادي الصراعات الدموية وأشكال الإقصاء والقمع والتكفير والتخوين كافة، وهو العامل الأقوى في تحصين مجتمعاتنا في مواجهة قوى التطرف والعنف.

* كاتب قطري

back to top