أظن أن أحد أهم ما سلط الضوء على جنس الرواية، وجعلها واحدة من أكثر الفنون قرباً للإنسان في وقتنا الراهن، هو قدرتها الساحرة على رسم حدود حياة فنية قائمة بذاتها، حياة مجاورة لحياة الواقع، لكنها قادرة على فضح هذا الواقع، وإدانته، وتعرية زيفه، والإشارة إلى فساد وكذب رموزه، وبالتالي، تفتيح عيون ووعي القارئ على ما يعتلج تحت سطحه.

Ad

إن اشتغال الكاتب الروائي أحمد زين في عالم الصحافة من جهة، وانتماءه الحقيقي إلى مشاكل وهموم وطنه، وأبناء شعبه اليمني، جعل من روايته الأخيرة «حرب تحت الجلد» الصادرة عن دار الآداب 2010، راوية واقع مئة في المئة، لكونها تنكأ وتنبش في عمق جرح اليمن النازف في وحدتها الظاهرة وانفصالاتها الداخلية الكامنة «تحت جلدها». لكن المتأمل لأحداث ومنطق أبطال الرواية، وخيباتهم وتقالبات قناعاتهم، يجد أنها قد تصلح وتنطبق على دول عربية كثيرة، تصدح أجهزتها الإعلامية والصحافية بالوحدة والرفاه وكرامة المواطن ليل نهار، ويقرر الواقع المعيشي الملموس حقيقة أخرى مؤلمة خلافاً لذلك.

«حرب تحت الجلد» رواية كابوسية، بكشفها وتعريتها لواقع إنساني اجتماعي يمني متشابك ومرير ومعتم، يحدث تحت وفوق الجلد المعيشي. إن على مستوى البنى التحتية المعيشة: الطرق، أماكن العمل، البيوت، المقاهي، الفنادق، أو على مستوى تفكير وبالتالي نفسيات وعلاقات البشر، الذين حكم عليهم قدرهم بالمعيشة هناك، تحت سقف الوحدة المفترضة، وبين ظلال التوزع والاحتراب اليومي الملموس. احتراب ضد الوحدة، ومع الوحدة، في ظل الوحدة. وكل هذه الحروب لا تقدم سوى مزيد من الفقر والحاجة والخوف من ملاحقة أصحاب الرأي الحر، وأخيراً الدماء والقتل والضياع والتشتت بين أفراد الأمة الواحدة.

يبدو واضحاً تسخير الكاتب أحمد الزين لخبرته ومعرفته الصحافية، كونه أحد أبناء مهنة المتاعب، في رسم أجواء الرواية، التي تتمحور حول نية وسعي بطل الرواية الصحافي «قيس» في كتابة تحقيق لصالح إحدى الوكالات الأجنبية عن حالة إحدى الفئات المهمشة والمسحوقة في المجتمع اليمني، وما يصاحب هذه النية من انكشاف على حقائق ونقاشات في محيط عمله الصحافي، في جريدة، يعمل رئيس تحريرها على أن يكون صوتاً للسلطة، وقد دجّن خلال سنوات «قيس» ليكون تابعاً له. وما آل إليه حال قيس في نهاية الرواية ووصوله الى قناعة مغايرة لقناعته التي عاش بها، وكأن كتابة التقرير في محصلته، ومحصلة الرواية هو المعبر الذي حمل قيس والقارئ معه إلى التوصل إلى كشف حقيقة زيف الواقع المبرقع.

أحمد زين صاحب «أسلاك تصطخب»، و»كمن يهشّ ظلاً»، و»تصحيح وضع»، و»قهوة أميركيّة»، كاتب مهموم بكتابة نص روائي يمني عربي، يتوافر على تقنية الرواية الحديثة، ويقدم الواقع الإنساني بعيدا عن الرخص والفضائحية، وهو في «حرب تحت الجلد»، يستخدم صوت السارد العليم، مع إعطاء مساحة كبيرة للحوار الداخلي للأبطال، مستندا الى تقنية الاسترجاع، وتعدد الأصوات الروائية، مستخدما لغة روائية منقاة وآسرة وسلسلة في الآن نفسه، تأخذ القارئ بسهولة ويسر، لتفتح عينيه على جرح عربي غائر يمضّ في القلب، دون أن يلوح في الأفق مخرجاً منه.

إن رواية «حرب تحت الجلد» بقدر ما تبدو بعيدة عن الهم الخاص والذاتي، خلافاً لمنحى روائي عربي واسع في وقتنا الراهن، إنما تكشف عن قناعة وهمّ صاحبها، والتي تتفق مع أبيات الشاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني، التي استعان بها المؤلف في مقدمة الرواية:

جنوبيّون في صنعاء/ شماليّون في عدن/ يمنيّون في المنفى/ منفيّون في اليمن.