حين نشرت بعض وسائل الإعلام خبراً حول تلقي أسرة البوعزيزي عروضاً من قبل رجال أعمال عرب لشراء عربة الخضار التي أحرق البوعزيزي نفسه من أجلها، شعرت بأنها نزوة من نزوات الأثرياء الذين يبحثون عن المقتنيات الغريبة، ولكن تأثير عربة الخضار الذي امتد من تونس ليشمل العديد من الدول العربية قبل اشتعال أيام الغضب في مصر المحروسة جعلني أراجع نفسي بخصوص قيمة هذه العربة الصغيرة، التي بدأت بإعادة كتابة التاريخ في العالم العربي.

Ad

عربة الخضار التي لم تكن أكثر من فرصة للعمل الشريف في دول تخنقها البطالة، وشوارع يحكمها الاستعلاء على أوجاع الناس، أصبحت تجسد القوة الهائلة التي تكمن في الهامش، نعم... عربة الخضار الهامشية التي كان يدفعها شاب هامشي لم تكن تحمل الطماطم والفجل والكراث، بل تحمل معاناة أمة عظيمة يعيش شبابها واقعا مريرا فيشاهدون العالم من حولهم يتقدم ويتحرك، بينما هم محرومون من العمل ومسحوقون تحت أقدام قوى الفساد، وإذا ما حاولوا التشبث بأدنى شروط الحياة الكريمة انهالت صفعات الشرطة على وجوههم.

عربة الخضار التونسية تجوب ديار العرب بسرعة مجنونة، تحمل فوقها أفكار جيل غاضب يتواصل مع العالم عبر «تويتر» و«الفيس بوك» ولا يجد فرصة للعيش الكريم في بلده، عربة الخضار تمر بين الدبابات والمدرعات لتثبت أن البقدونس أشد فتكا من الرصاص الحي، وحزمة الملوخية أشرس من مباحث أمن الدولة، وكيلو الخيار أكثر صدقا من صحف الحكومة.

عربة الخضار تجوب المنحدرات والمرتفعات، تباغت الشوارع المقهورة ويركض خلفها الملايين بحثا عن الحرية والكرامة، عربة الخضار تطارد الحكومات المغرورة التي لم تتخيل في يوم من الأيام أن التغيير سيأتي من سوق الخضار، وأن القصور ذات الأسوار العالية سوف تتعرض للقصف بالباذنجان.

عربة الخضار التي لا تبقي ولا تذر لا تعترف بقرارات منع التجول، ولا تخاف من القنابل المسيلة للدموع، ترفض البقاء في السراديب المعتمة والرطبة، وتدور عجلاتها الصغيرة فوق خطط التنمية الوهمية، لم يعد بإمكانها الاستماع إلى المزيد من الأكاذيب، ولم يعد في هامشها المهمش مساحة للصبر بعد أن فاض الكيل وأصبحت الحياة بلا معنى.

عربة الخضار الخشبية لن تتوقف، من ذا الذي يستطيع أن يوقفها؟ نعم قد تكون هناك فرصة أخيرة لتفادي مسيرتها المجنونة، ولكن إيقافها يبدو عملا يستحيل تحقيقه، ولكن كيف ستتفادى الحكومات عربة البوعزيزي وهي لا تشعر بوجودها أصلا؟ فما يحدث اليوم يثبت أن الحاكم العربي لا يسمع صرخات الهامش إلا حين يقول له مساعدوه: «سيدي... ثمة عربة خضار في الشارع المجاور».

* كاتب سعودي

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة