الثورات والحروب في استطاعتها إنتاج فنون وآداب لثقافة جديدة إبان اندلاعها واشتعالها في المدن وفي شوارعها، لكنها لن تستطيع خلق رؤى ثقافية ذات أبعاد فلسفية أو فنية أو أدبية إلا بعد حين.

Ad

الرؤية الفنية أو الفكرية أو الأدبية تحتاج إلى الوقت والزمن الكافي حتى تبرد فيه الانفعالات الحادة ويهدأ فورانها، ومن ثمة تأتي بمحصولها، الذي تكون من بعد هدوء العاصفة وانبلاج نور الرؤية الهادئ المنبعث من قلب السكون الرائق الذي ساعد وساهم في فهم وتحليل، وإدراك كل ما حصل.

لذا نجد أن الأغاني والأناشيد الوطنية قد اجتاحت القنوات الفضائية، وكذلك الحال مع برامج الحوارات المتعلقة بالإصلاح الوطني أو كشف الأخطاء والدسائس والفساد السياسي قد اكتسحت معظم القنوات الفضائية الوطنية الجادة، فهذا هو زمنها الذي نعيشه اليوم بكل هذه التغيرات العاصفة في كل أرجاء الوطن العربي بهذه المتغيرات الصعبة والدامية، لكنها ستقود هذه الشعوب لأول مرة إلى مفهوم معنى الحرية والديمقراطية الحقيقية.

وأنا من المتفائلين بهذه التغيرات التي ما إن تستقر وتهدأ، فسوف تُجنى ثمارها الحقيقية التي ستعود على الشعوب بالاحترام لها والتقدير لمقدراتها.

ولن يكون هناك أبداً وجود مرة أخرى لهذا النوع من الحكام المتسلط بأقدار العباد وبمقدراتهم، ولن يوجد مثل هذا الحاكم الذي يقبض بيد من حديد على كل سلطات الدولة، وعلى حياة كل من فيها.

الغريب أنه ما إن يسود هذا الوضع الوطني الحماسي، المساهم في صنع الحياة والمشارك في خلق رؤاها وأهدافها، حتى يتغير فجأة كل واقع فيها، فيصبح لكل شيء طعم آخر، وسبحان الله فجأة تدب الحياة في الغصن اليابس، ويتدفق الدم في شرايين الناس بحماسة غير معهودة، وكأن أجنحة قد نبتت لهم، وبات للدنيا مذاق جديد، حتى وإن كان لهذا الطعم ثمن غال.

فشعوب أوروبا لم تصل إلى ما وصلت إليه من حال استقرار وديمقراطية حقيقية إلا بعدما دفعت الثمن بملايين الأعداد من البشر قتلوا في ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية وما أعقبهما من حركات التحرر.

اليوم نجد أن الشعوب العربية تُخلق من جديد، وتخلق معها إرادتها وحريتها وثقافتها وفنونها التي ستنهض معها حالما نهضوا، وكذلك ستسود ثقافة واعية وجادة، وليست بتلك المغيبة في المخدرات والفيديو كليب العارية والهابطة في سقوطها المريع.

وستعود لنا تلك الأغاني الرائعة المغذية للروح وللعاطفة معاً، أو كما قال الشاعر عبدالرحمن الأبنودي: عندما تفسخت مصر تفسخ الفن معها، وعندما تنضبط وتقف بطولها سيقف الفن معها.

وطبعاً سينعكس مردود ذلك على الشعوب العربية كلها، التي بالفعل ستتأثر سلباً وإيجاباً بما يجري في مصر.

وبما أن هذا الزمن هو زمن الثورات والتغيرات الكبيرة، والجو كله مشحون بهذه الانفعالات الثورية التي ينام الناس ويصحون عليها، حتى باتت الروح الوطنية مشحونة ومشحوذة على آخرها، ولم يعد هناك أي مكان لفعل أو انفعال آخر.

فمنذ شهر يناير الماضي حتى اليوم أجدني لم أقرأ أي كتاب، ولم أذهب فيها إلى أي معرض أو أي احتفالية.

ولم أشاهد فيها إلا فيلماً واحداً وبالكاد أنهيته مع سدة النفس هذه التي تحجب كل تفاعل وتركيز عميق في أي موضوع كان.

لذا أقول إن هذا الزمن هو زمن الخلق، أما الولادة فستأتي من بعده، أي حين يهل زمن نضجها واستوائها.

ونتمنى من الله ألا يطول زمنها، وأن تأتينا الولادة بكل الخير الذي تستحقه الثقافة العربية وفنونها وآدابها، وأن يكون لها دور واضح في قيادة حياة شعوبها إلى الرفعة والتقدم وليس إلى الانحدار والتفسخ مثلما هو الحال السائد الآن.