الأميات (جمع أمية) عبر العصور أربع: أمية القدرة على القراءة والكتابة، وأمية القدرة على التحدث باللغة الإنكليزية، وأمية القدرة على استخدام الحاسوب، وأم الأميات، وأصعبهن قاطبة في قناعتي، أمية القدرة على التفكير السليم.

Ad

فأما أمية القدرة على القراءة والكتابة، فهي أمر بالغ الأهمية ولا شك، فمن لا يستطيع فك الخط المكتوب اليوم، والتعبير عن نفسه برسم الخطوط المقروءة على الأوراق فاقد لأداة أساسية من أدوات الاتصال بالعالم من حوله، خصوصا في عالم أضحى يعتمد اعتمادا كليا على التعبير كتابة في كل مناحيه.

وأما القدرة على التحدث باللغة الإنكليزية، على وجه الخصوص، فقد تجاوزت اليوم مرحلة القيمة الكمالية، والوجاهة الاجتماعية، ووصلت إلى مرحلة الضرورة الحياتية، فبعدما كان الإنسان ليس بحاجة لاستخدام هذه اللغة إلا عند سفره إلى الخارج، غدت أغلب التعاملات والمحادثات، الرسمية وغير الرسمية منها، تعتمد اعتمادا كبيرا على هذه اللغة، حين صارت الإنكليزية لغة التقنيات والتطورات التي تحيط الإنسان من كل مكان، ولا يكاد يعيش دونها، سواء رضي بذلك أم رفضه.

وأما القدرة على استخدام الحاسوب، والأجهزة المشابهة له من هواتف ذكية وغيرها، فهي قدرة تتزايد أهميتها يوما بعد يوم، بعدما تطورت استخدامات هذه الأجهزة المدهشة وتنوعت، وما عاد استخدامها حكرا على المتخصصين ومحترفي هذه التقنيات، بل صارت متاحة ومبذولة للجميع، بل موجهة في غالبها لعموم الناس، وصار من المألوف اليوم أن ترى شيخا عجوزا، وهو مستغرق استغراقا عميقا في تصفح الإنترنت عبر «لابتوبه» الشخصي مثلا، في حين أنه كان من النادر أن ترى مشهدا كهذا منذ عدة أعوام، أو أن ترى كثيرا من الناس يتراسلون ويتواصلون عبر هواتفهم الذكية بتقنياتها العصرية الحديثة، التي كان يراها البعض معقدة جدا قبل سنوات بسيطة.

ولكن أم الأميات، وأصعبهن جميعا، فهي وكما ذكرت، ما أسميها أمية القدرة على التفكير السليم. يمكن للإنسان أن يتعلم القراءة والكتابة، حتى لو تقدم به العمر، بل ويمكن له أن يعيش حياته دون تعلمها معتمدا على الآخرين لتصريف أموره، على استحياء، ويمكن له كذلك أن يتعلم التحدث بالإنكليزية، ولو شيئا يسيرا منها، وكذلك كثيرون هم من تعلموا مبادئ استخدام الحاسوب، عندما أدركوا أهميته، لكن أمية التفكير السليم هي الأهم والأخطر من بين هذه قاطبة لأن أغلب الناس لا يدركون معناها ولا يستشعرون فقدها ناهيك عن الحاجة إلى تعلمها.

تعثر كثير من الناس من حولنا في حياتهم، وتعرقل مسيرة إنجازهم، وتصدع كثير من علاقاتهم الاجتماعية، لا يعود إلى أميتهم في القراءة أو الكتابة، أو جهلهم الحديث بلغة ثانية، أو عجزهم عن استخدام الحاسوب، في المقام الأول، على ما لهذه الأمور من أهمية بأقدار متفاوتة في الظروف المختلفة لكل حالة، إنما لعدم القدرة على التفكير السليم.

إن عدم القدرة على اتخاذ القرار الصحيح والرد المناسب في الوقت الصحيح والمناسب، وعدم القدرة على ترتيب الأولويات في العمل والبيت والعلاقات الاجتماعية والحياة عموما، وعدم القدرة على إدارة الوقت وحفظه، وعدم القدرة على التواصل مع الآخرين بشكل سليم وناجح، وحتى عدم قدرة الإنسان على إدراك حاجته لمعالجة أميته في القراءة والكتابة، وتعلم اللغة الثانية والحاسوب، وما شابه، هي ما تشكل في مجموعها عدم قدرته على التفكير السليم، وهي ما تقوده إلى الفشل في حياته.

ما أكثر من يتقنون القراءة والكتابة، والحديث بالإنكليزية، وربما بلغات عديدة، واستخدام الحاسوب وكثير من التقنيات باحتراف وتمكن متقدم، لكنهم فاشلون ومتعثرون في حياتهم على أكثر من صعيد، لأنهم يعانون قبل هذا كله أمية القدرة على التفكير السليم، وهم لا يشعرون!

إلا أن أهم ما في سائر الأمر، وخلاصته الصافية، هو أن هذه الأمية ليست داء لا شفاء منه ولا هي برمجة عقلية جبرية لا فكاك منها، بل هي أمية قابلة للمحو والتغيير من خلال التعلم والتدرب بسهولة نسبية، والوسائل لذلك متعددة ومتاحة. لكن العلاج يبدأ دوما بالإدراك الشخصي، أي بإدراك المرء لوجود المشكلة عنده، فليتوقف كل واحد منا من اندفاعه في طاحونة هذه الحياة، ولينظر إلى نفسه وحياته وليستعن بصديق عارف راجح الرأي، وليتساءل: هل أنا في مشكلة؟!