ايها القارئ بعد زمان طويل
تكلم حين كان الصمت يلفّ المكان، وكان شجاعاً حين كان الخوف سمة ذلك الزمان، كان صوته (مع قلة غيره) وحيداً وسط الصخب والضجيج، ليكشف لنا في أوج عصر الأصولية عن «الحقيقة الغائبة»... كان يعلم د. فرج فودة أن اسمه وُضع في قائمة الاغتيالات، ولكنه أصر مع رفاقه على إشهار حزب جديد باسم «حزب المستقبل»، إلا أن «جبهة علماء الأزهر» أصدرت بياناً يكفره ويحذر من الموافقة الرسمية على الحزب الجديد. لتترجم كلمات البيان إلى فعل، وتصيبه رصاصة الغدر في 1992، وليسأل قاتله أثناء محاكمته: لماذا اغتلت فرج فودة؟ فيجيب: لأنه كافر. ومن أيِّ كتبه عرفت أنه كافر؟ فيرد: أنا لم أقرأ كتبه. كيف؟ القاتل: أنا لا أقرأ ولا أكتب!
لم يُنصَف شهيد الكلمة د. فرج فودة حتى في محاكمة قتله، التي اشتهرت بأنها «محاكمة للقتيل» لا محاكمة القاتل... فشهادة «الشيخ» محمد الغزالي أثناء المحاكمة ظلمته أيَّما ظلم حين قال إن القاتل لم يخطئ في شيء إلا أنه افتأت على السلطة! وأنه لا عقوبة للافتئات على السلطة، فتُرك المحرضون على قتله يعبثون إلى اليوم دون محاكمة أو تجريم. آمن د. فرج فودة بأن «الحوار هو الحل»، فحاورهم قبل وفاته بأشهر قليلة في مناظرة تاريخية بعنوان «مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية»، وكان طرفها الآخر الداعية محمد الغزالي والدكتور محمد عمارة والمتحدث الرسمي للإخوان المسلمين مأمون الهضيبي. فقدم د. فودة حججه التي تناقض دعوتهم مفرقاً بين الإسلام الدين والإسلام الدولة، فالإسلام الدين في أعلى عليين، أما الدولة فهي كيان سياسي واقتصادي واجتماعي يلزمه برنامج تفصيلي يحدد أسلوب الحكم. نختصر حججه في هذا المقال بالتالي: حجة التاريخ، فهو الشاهد على أن تجربة الدولة الدينية التي استمرت 13 قرناً، لم تكن إلا حكماً استبدادياً استعبادياً، والحجة الأخرى هي حجة الواقع الحالي، والنماذج المجربة التي تجاورنا، فأي مثال نتبع؟ ولو عاش فرج فودة إلى يومنا هذا لرد على المزهوِّين بنموذج حزب العدالة والتنمية التركي بأنه وصل إلى الحكم من خلال العلمانية الدستورية، وأنه اليوم (أي الحزب) حامٍ لأهدافها، وليس عدواً لها. أما الحجة الأخيرة، فهي حجة تحقيق وحدة الوطن عبر الدولة المدنية التي تنزه الإسلام عن ممارسات السياسة وتحمي الأديان والأقليات، والتي لا تعرف هوية سوى هوية المواطنة. انتهى الحوار الذي تمنى د. فرج فودة أن يستمر حتى يكتشفوا أن المسألة هي رؤى وليست إسلاماً وعداء للإسلام. ولكنه راهن على الجواد الخاسر، فلم يكن الحديث «بالحروف» بل بالتكفير ومن ثم «الكلاشينكوف».وها هي تنبؤاته وتحذيراته من خطورة فشل الدولة المدنية تقف شاهدة على الزمان، فالصحف المصرية تتحدث عن ترويع وفوضى وتناحر الطوائف الدينية في صراعها على السلطة، وها هم السلفيون الذين لم يشاركوا في ثورة 25 يناير قرروا أن يدعموا الإخوان بعد أن كانوا في كنف الحكومة السابقة، ولم يكتفوا بذلك بل كفروا كل مَن لم يصوت للتعديلات الدستورية، التي وصفها شيخهم بـ»غزوة الصناديق»، وهددوا النساء غير المحجبات وتوعدوا بإغلاق الكنائس وهدم المعابد الفرعونية، وأقام بعضهم الحد على مواطن قبطي بقطع إذنه، ودخلوا في حرب معلنة مع الصوفيين في تهديد الطرفين لاستخدام القوة على خلفية هدم الأضرحة.وعد د. فرج فودة أن يكون ما سجله وثيقة شرف للأجيال القادمة، فيقول في كتابه «نكون أو لا نكون»: «ولعلهم لن يصدقوا أننا كتبناه ونحن غارقون في اتهام التكفير, ومحاطون بسيوف الإرهاب والتهديد، ويقيناً سوف يكتب البعض من الأجيال القادمة ما هو أجرأ وأكثر استنارة، لكنه سوف يصدر في مناخ آخر أكثر حرية وانطلاقاً وتفتحاً... وسوف يكتشفون عندما يقلّبون أوراقنا ونحن ذكرى أننا دفعنا الثمن... ويا أيها القارئ بعد زمان طويل اقرأ.. كيف كانت الكلمات أقوى من الطلقات، وافهم معنى كلمة الله العلي القدير حين شاء أن تكون أولى كلماته في الإنجيل «في البدء كانت الكلمة» وفي القرآن «اقرأ»... يا أيها القارئ بعد زمان طويل... اقرأ».