التغيير ضرورة... لكن ما البديل؟!

نشر في 10-02-2011
آخر تحديث 10-02-2011 | 00:00
 أ. د. محمد جابر الأنصاري تجتاح المجتمعات العربية، في هذه المرحلة، رغبة عارمة في التغيير، وعلى مدى الأسابيع القليلة المنصرمة شهدنا مؤشرات واضحة على ذلك، في تونس ثم في مصر.

إن الإصلاح والتغيير ضروريان، وهما «سنّة الحياة» ولا يمكن المكابرة بشأنهما، فالعالم يتحرك، ويتقدم إلى الأمام، ومن يجمد مكانه تهتز الأرض تحت قدميه، وثمة أنظمة في العالم العربي بقيت على حالها، لعقود طويلة، وهذا ضد قانون الحركة في عالمنا. ويجمع كل من يحسن قراءة هذه الظاهرة على أن التباطؤ الخطر في السير إلى الأمام كان سيد الموقف، كما قال غسان شربل بحق: «ربما كانت دول المنطقة تدفع فاتورة تأخر حكوماتها في اتخاذ قرارات صعبة في السنوات الماضية، قرارات جريئة في ميدان الإصلاح السياسي والاقتصادي، قرارات بالإصغاء إلى الناس بدلاً من المسارعة إلى اتهامهم، قرارات بفتح النافذة قليلاً حتى لو حمل ذلك خطر تسرب الرياح، لم تنتبه الحكومات إلى أن تسرب الرياح يبقى أفضل من توفير الظروف لاندلاع عواصف واسعة، لم تتعلم دول المنطقة مما شهدته مناطق أخرى في العالم، لم تدرك أن معالجة الهزات الصغيرة أفضل من التحصن وانتظار الزلزال». (الحياة: 29/1/2011م).

أو كما قال طارق الحميد: «إن كل المطالب الشعبية مشروعة، وتوفير الحياة الكريمة حق لنا كعرب، ومحاربة الفساد أمر حتمي لنبقي على خيراتنا، ونحافظ على الطبقة الوسطى، وهذا ليس حديثاً عن مصر فقط، بل لكل العالم العربي بدون استثناء، فواجب الحكومات هو توفير الأمن، والرعاية الصحية، والوظائف وتفعيل الطاقات كلها، وليس التدخل في حياة الناس وقمعهم...». (الشرق الأوسط: 29/1/2011م).

ويستغرب المرء من إصرار الغرب على الديمقراطية في مجتمعاتنا- ومفترض أنه خبير بهما- حيث ستأتي بقوى معادية لها وله؟... ثم إن تدخله في الشؤون الداخلية لبلداننا مثير للاشمئزاز.

وفي تقديري، أن السبب الأساسي لما يحدث أن الخطط التنموية في المجتمعات العربية والشرقية تخلق طبقات جديدة- من أهمها الطبقة الوسطى- وترفع سقف توقعاتها لكنها تسد الأفق السياسي أمامها وتفرض عليها دكتاتورية عمياء، وقد قاربت هذه الإشكالية في مقالة سابقة لي بعنوان: «الإغداقات التنموية هل تحول دون المطالبات السياسية؟» بتاريخ 4 نوفمبر 2010م.

والإشكالية الكبرى الناجمة عن مثل هذا التغيير للأنظمة الحاكمة تتمثل في طبيعة «البديل» القادم إلى الحكم على المدى البعيد.

إن ائتلافاً سياسياً ديمقراطياً يمكن أن ينشأ لبعض الوقت- كمرحلة انتقالية- بعد تغيير النظام وإجراء الانتخابات. ولكن مثل هذا الائتلاف ترتيب «مؤقت» لابد أن ينتهي بحكم طبيعته أو الخلاف المحتمل بين أطرافه، وقد رأينا من خلال التطورات في مصر أن الخلاف بدأ منذ أول يوم بين أطراف تؤيد «البرادعي» وقد فوضته للنطق باسمها وأطراف أخرى مشاركة في الاحتجاجات تعارض ذلك... فهل بإمكان ائتلاف كهذا التصدي لمشكلات الحكم في أي بلد؟ حتى الائتلاف الذي قام بين «حزب المحافظين» وحزب «الأحرار الديمقراطيين» في البرلمان البريطاني وفي الحكومة البريطانية المنبثقة عنه، وفي بريطانيا حيث للديمقراطية أزمان من التجربة، نقول إن هذا الائتلاف معرض للتفكك كما تشير إلى ذلك وقائع عدة. فكيف يمكن لائتلافات أخرى في بلدان كانت تعد من «العالم الثالث» أن تستمر؟ ثم تأتي «القوة الحاسمة» المسيطرة على الشارع والقوى الأخرى المختلفة، وهي يمكن أن تتمثل في:

1- دكتاتورية أصولية بحكم سيطرة التطرف الديني على المجتمع في هذه المرحلة.

2- دكتاتورية عسكرية، مضادة على الأرجح، نظراً لكون الجيش «المؤسسة التحديثية» الأكثر تقدماً في المجتمع، ولأن الجيش يمتلك وسائل السيطرة.

ونذكّر كل من له اهتمام تاريخي بتطورات مصر، منذ قيام حركة الجيش في 23 يوليو 1952، أن أحداث مارس 1954 مثلت ائتلافاً للقوى السياسية المختلفة ضد الحكم العسكري من أجل «إعادة الديمقراطية» التي قامت حركة الجيش- أصلاً- باسمها، ولكن لأن العسكر تولوا الحكم ولم يريدوا التخلي عنه- حيث لا يمكن لأي مؤسسة تقوم بالانقلاب- أن تتنازل عن السلطة، خصوصاً في مجتمعات العالم الثالث. ومنذ ذلك التاريخ، والمؤسسة العسكرية تحكم مصر بلباس مدني على اختلاف بل تناقض اتجاهات السياسة المصرية، وكل «الرؤساء» الذين تولوا حكم مصر قادمون من الجيش! (وكانت هذه إحدى نقاط الضعف السياسي في فكرة ترشيح جمال مبارك «المدني» لخلافة والده).

هكذا فالمجتمعات العربية الإسلامية تعاني تناقضات، واحتمالات مواجهة، بين التوجهات المدنية والتوجهات الدينية، وإذا أريد تفادي العنف والمواجهة الدموية فلا بديل عن «التطوير» و»التحديث» للأنظمة القائمة شريطة أن تقوم هذه الأنظمة بإصلاحات صادقة بعيدة عن «الإخراج الإعلامي».

عندما تولى الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود حكم المملكة العربية السعودية عام 2005، كانت قد نضجت في تطلعاته المتقدمة وتطلعات المجتمع السعودي توجهات إصلاحية عديدة، ينتظر الجميع مدى تحولها إلى واقع، وقبل مجيء الملك عبدالله، شهدت المنطقة العربية مبادرات إصلاحية تحتاج إلى مزيد من التطوير ولكن ينبغي أخذها في الاعتبار.

إذْ تمثل الخطوة الانعطافية المهمة التي أقدم عليها الملك الحسن الثاني، في أواخر عهده، بتولية السيد عبدالرحمن اليوسفي، المعارض المحكوم بالإعدام، منصب رئاسة الوزراء خطوة في غاية المرونة السياسية وغاية الذكاء، أدت إلى تطور كبير في الأداء السياسي للنظام الملكي الدستوري المغربي، بوفاة الحسن الثاني، وتولي الملك محمد السادس الذي يعمل بالنهج ذاته، ويطوره بصورة لا تخفى على من يتابع المشهد السياسي المغربي.

ويندرج، ضمن هذا النهج، ما أقدم عليه الملك الحسين بن طلال حيال معارضي حكمه في الأردن، حيث كان يذهب- مثلاً- إلى السيد ليث شبيلات في سجنه، ويصحبه في سيارته إلى بيته وأهله. وهكذا كان سلوك الملك مع معارضيه جميعاً. ومنه التقط الخيط الملك عبدالله الثاني الذي يمثل عهده تطويراً لنهج والده.

وأهم خطوة خليجية انطلقت من هذا التوجه ومثلت قيام أول ملكية دستورية في منطقة الخليج العربي ما أقدم عليه ملك البحرين، حمد بن عيسى آل خليفة، ضمن مشروع إصلاحي شامل مازال قائماً يتدرج بإجراء الانتخابات البرلمانية في مواعيدها، والعمل على تغيير طبيعة الحكم وتحديثه، ودعوة المواطنين إلى تحمل المسؤولية كشركاء، واستمرار الرقابة المالية والإدارية.

ختاماً، يمكن تفهم شعور البعض بضرورة تغيير النظام الذي لا يريدون، فالمهم- كما يقولون- أن «نتخلص» من السلطة القامعة التي استمرت طويلاً، ثم لكل حادث حديث. وهذه حالة نفسية أكثر منها فكرية.

ولكن من الحكمة التفكير أيضاً في طبيعة «البديل الحاكم المقبل» الذي ستتكشف عنه التطورات السياسية التي جرت في تونس، والجارية بمصر والمعّرض لها أي بلد عربي، لأن ذلك هو «بيت القصيد» بعد إسقاط النظام القائم. فثمة مأزق تاريخي في هذه المرحلة من التطور السياسي للمجتمعات العربية، كما أبان كاتب هذه السطور في كتابه التلخيصي «العرب والسياسة: أين الخلل؟» الصادر عن دار الساقي عام 1998. ويحار المرء في ذلك «التلاقي غير المقدس» بين واشنطن وأوروبا ودول مدعوة «ثورية» في المنطقة، وأطراف المحتجين بمصر على تأييد حركة الاحتجاج، وعلينا ألا نغفل ما صرح به متحدث في حزب مصري معارض لقناة «روسيا اليوم»، من أن بعض أطراف المعارضة بمصر تخدم «أجندات أجنبية»!

إن أي مجتمع عربي، وربما إسلامي، محتم عليه البقاء في ظل النظام القائم بطبيعته ونهجه، وليس بالضرورة بأفراده الحاكمين، أو الانتقال إلى نظام نقيض قد لا يقبل به قسم من المجتمع، لكنه سيُفرض على الجميع!... هذا «مأزق تاريخي» لا يمكن تجنبه... للأسف!

أما الديمقراطية المطلقة، بمفاهيمها، فتحتاج إلى تطور طويل الأمد لم يحن موعده التاريخي بعد.

ويبدو لنا أن الدعوة إلى «تطوير» النظام القائم و«تحديثه» أفضل من الدعوة إلى إسقاطه لما يمكن أن ينجم عن ذلك من عنف يقول المحتجون إنهم لا يريدونه!

* مفكر من البحرين

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة

back to top