نحو تشريع أسرة خليجي متصالح مع العصر

نشر في 30-05-2011
آخر تحديث 30-05-2011 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري على المشرع الخليجي مراجعة تشريعات الأسرة على ضوء التحولات المجتمعية التي جعلت المرأة شريكاً فاعلاً، وبما يتلاءم مع روح العصر وقيمه، وفي إطار مقاصد الشريعة الهادفة إلى حفظ الكيان الأسري ودعم تماسكه، وبما يتفق وروح وأهداف ونصوص الدساتير الخليجية، وفي ضوء معطيات العصر الداعمة لحقوق الإنسان وكرامته.

المرأة الخليجية تلعب دوراً بارزاً في المجتمع الخليجي اليوم، وتشارك في المجالات التنموية كافة، وأصبحت تمارس حقوقها السياسية في معظم أقطار مجلس التعاون، وتقلدت مناصب قيادية، فصارت وزيرة، ومديرة للجامعة، وعميدة، وقاضية، ومحامية، وسفيرة، وتغير المجتمع الخليجي وأصبح يتقبل مشاركة المرأة في الحياة العامة ويقدر جهدها، لكن التشريعات الخليجية، خصوصاً تشريعات الأسرة ما زالت محكومة باجتهادات فقهية ماضية.

وهذه الاجتهادات لفقهاء عظام، وهي محل تقديرنا وإجلالنا إلا أنها ناسبت مجتمعاتنا في الماضي حين كانت المرأة فيها كائناً غير منتج وغير مشارك في الحياة العامة، والفقيه في النهاية ابن عصره ومجتمعه واجتهاده، ومهما كان عظيماً فإنه لا يبرأ من أعراف مجتمعه ولا يخرج عن إطار الثقافة المجتمعية السائدة ولا يتجاوز الأفق الثقافي لعصره.

ونحن اليوم أبناء عصرنا، وحلول الماضي لا تناسب قضايانا المعاصرة، كما أن تشريعاتنا ما زالت أسيرة لتقاليد موروثة لا ترى المرأة نداً للرجل في الحقوق والواجبات، فهي لم تأت بالغنائم، ولم تقاتل على ظهور الخيل، ولذلك ما زالت المرأة الخليجية محرومة من حق نقل جنسيتها إلى أطفالها إذا تزوجت من غير المواطن، وما زال مصيرها في بيت الزوجية معلقاً بإرادة الرجل وحده، إن شاء رماها في الشارع لهفوة أو نزوة أو مزحة، وإن شاء قيّدها ولن تستطيع قوة على تخليصها.

الطلاق حق سيادي للرجل لا ينازعه أحد، ولذلك فإن معدل الطلاق الخليجي وصل إلى 40%، وما زالت التشريعات الخليجية تعطي الرجل حق تطليق زوجته إذا كانت عاقراً، ولا تسمح للمرأة بطلب الطلاق إذا كان الرجل عقيماً، وهي تفرقة لا مسوغ ديناً لها أو خلقاً أو عقلاً، بل حتى «الخلع» الذي جعله الإسلام مخرجاً للمرأة لم يسمح به التشريع الكويتي إلا بموافقة الزوج، فلو بذلت المرأة كل أموالها لتفتدي نفسها ولم يوافق الزوج فلن تستطيع قوة أن تحررها، فهل يعقل أن يقرر الشارع الخلع لمصلحة المرأة عند توافر أسبابه ثم يجعله رهناً برغبة الرجل وهواه، أي أن الزوج هو الخصم والحكم؟! يزعمون أنه تشريع سماوي، فهل يجيز التشريع السماوي الظلم والعنت؟! وبطبيعة الحال لن أستطيع حصر أوجه الانحياز التشريعي الهادف لاستدامة تسيد الرجل واستمرار وصايته على المرأة انطلاقاً من أوهام «أعلوية» الرجل على المرأة، ولكني أذكر أبرز ما أراه بحاجة إلى مراجعة في التشريع الأسري الخليجي:

1- السن القانونية للزواج: معظم التشريعات الخليجية تحدد سن الزواج للفتى بـ18 عاماً وتسمح بزواج الفتاة بعمر 16 عاماً وما دون، بل تعطي القاضي حق تزويجها ما دون السن القانونية، وإذا علمنا أن الطرفين في هذه السن يفتقدان الخبرة ولا يحسنان الاختيار السليم إضافة إلى انشغالهما بالدراسة، فإن نسبة كبيرة من هذه الزيجات المبكرة مصيرها الفشل طبقاً للإحصاءات الرسمية.

كانت صحفية «الوطن» القطرية نشرت استطلاعاً جماهيرياً وضح أن 77% يرون أن السن المناسبة لزواج الفتاة يجب ألا تقل عن 18 عاماً، كما رفض 94% من القطريين تزويج بناتهم في سن 14. الفتاة في هذه السن غير مؤهلة لتحمل مسؤولية الزواج والعناية بالأولاد، لكنها يد الماضي التي ما زالت تتحكم بالمشرع الخليجي، علماً أن هذه الفتاة تعد في نظر القانون قاصرة لا أهلية قانونية أو مالية لها، وبالأمس قامت في السعودية حملة لمحاربة ظاهرة زواج القاصرات وطالبت بتجريمها، وقد أثارت جدلاً اجتماعياً عريضاً.

2- الفحص الطبي للزواج: بعض التشريعات الخليجية، ومنها القطري، تجعل الفحص الطبي اختيارياً بل نتيجته غير مانعة لتوثيق العقد متى رغب الطرفان في إتمامه، وهذا غفلة عن مقاصد الشرع في تكوين أسرة تتمتع بالمعافاة وفي حماية النسل من الأمراض الوراثية.

3- تعدد الزوجات: تبيح التشريعات الخليجية تعدد الزوجات ولا غبار على ذلك، فالتعدد أمر مشروع، لكن التعدد بالشكل الحاصل على أرض الواقع الخليجي أنتج سلبيات عديدة: أسر مفككة، وأطفال يعانون أشد المعاناة، وقضايا في المحاكم معلقة سنين عددا. وفي تصوري أن التعدد «حل» لمشكلة اجتماعية أو فردية وليس «حقاً» مزاجياً للرجل لإشباع نزواته، ومن هنا فإن المشرع الخليجي مدعو لوضع ضوابط تضع حداً لضحايا هذا التعدد العشوائي، خصوصاً أن الشارع الحكيم أعطى لولي الأمر حق تقييد المباح ووضع ضوابط للأمر المشروع حتى لا يساء استخدامه.

4- تقييد الطلاق: حسناً فعلت التشريعات الخليجية، إذ خالفت جمهور الفقهاء فضيقت دائرة الطلاق حماية للأسرة من التصدع. فاعتبرت الطلاق ثلاثا أو المتتابع طلقة واحدة، ولم تأخذ بطلاق المجنون والمكره، ومن كان فاقد الإدراك بسكر أو بغضب، وكذلك لم تأخذ بالطلاق غير المنجز إذا قصد به الحمل على فعل شيء أو تركه أو كان الطلاق في العدة أو الحيض أو في طهر مسها فيه أو بالحنث في يمين الطلاق. وهذا توجه محمود، ويبقى ألا يؤخذ بطلاق الهازل أو المخطئ أو الناسي، إذ لا عبرة بالحديث «ثلاث جِدّهن جِدّ وهزلهن جِدّ: الطلاق والنكاح والعتاق»، فهو مطعون في سنده. على أننا نريد إضافة أن يكون الطلاق أمام القاضي وبشهادة الشهود وذلك لمصلحة الأسرة، فالطلاق لا يكون إلا عن عزم وقصد مصداقاً لقوله تعالى: «وإن عزموا الطلاق»، ولقوله صلى الله عليه وسلم «إنما الطلاق عن وطر».

5- حق المرأة في نفقة المتعة: المتعة مال يعطيه الزوج لزوجته المطلقة زيادة على الصداق لتطييب نفسها وجبر خاطرها مصداقاً لقوله تعالى: «وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين» لكن التشريعات الخليجية إذ أقرت حق المتعة للزوجة المطلقة فقد حددتها بنفقة سنة فقط، ما عدا التشريع القطري الذي جعلها لـ3 سنوات. وهو الأعدل لكن الأكثر عدالة: ربط نفقة المتعة بعدد سنوات الحياة الزوجية، إذ ليس من العدل أن تكون نفقة المتعة لزوجة طلقت بعد سنة، هي نفسها لزوجة عاشت مع زوجها 20 سنة في السراء والضراء وقد تكون هي السبب وراء حصول الزوج على الخير والنعمة، وإذا كانت التشريعات الغربية تجعل المرأة تأخذ نصف ما عند الزوج من مال وممتلكات، أليس الأجدر بتشريعاتنا أن تنصف المرأة بإعطائها متعة تتناسب ومدة العشرة الزوجية؟!

5- حق الأم في الحضانة ولو تزوجت: الأم أحق بحضانة أولادها، وهي الأصلح لهذه المهمة شرعاً، والتشريعات الخليجية إذ تعطي هذا الحق للأم إلا أنها تشترط عليها ألا تتزوج، فإذا تزوجت نزع منها أطفالها بناءً على حديث يقول «أنتِ أحق به ما لم تنكحي» ولمبرر سخيف يقول: إن زوج الأم قد يكره الطفل ويسيء إليه. وحده الفقيه الحنفي الكبير «ابن عابدين» وقف مفنداً هذا الزعم قائلاً «قد يكون زوج الأم مشفقاً على الصغير أكثر من القريب، وقد يكون لأبي الصغير زوجة تؤذيه»، ولذلك فإن الإمام ابن حزم الظاهري رفض رأي الجمهور في مصادرة حق الأم في حضانة أولادها وقال «الأم أحق بحضانة الصغير تزوجت أو لم تتزوج»، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل الذي جاء يسأل: من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك (ثلاثاً) ونحن مع هذا الرأي ومع مصلحة الطفل أولاً وأخيراً. إذ لا يعقل من الشريعة العادلة أن تضع الأم بين نارين: الاحتفاظ بأطفالها مع دفن شبابها أو التضحية بهم في مقابل زواجها!

في الختام على المشرع الخليجي مراجعة تشريعات الأسرة على ضوء التحولات المجتمعية التي جعلت المرأة شريكاً فاعلاً، وبما يتلاءم مع روح العصر وقيمه، وفي إطار مقاصد الشريعة الهادفة إلى حفظ الكيان الأسري ودعم تماسكه، وبما يتفق وروح وأهداف ونصوص الدساتير الخليجية، وفي ضوء معطيات العصر الداعمة لحقوق الإنسان وكرامته... ويبقى أن أقول إن عنوان المقال مستمد من كتاب رشيد الخيون «بعد إذن الفقيه».

* كاتب قطري

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة

back to top