الباب المشرع، الباب المفتوح، دعوة للقادم من بعيد. إنه إشارة لدخول الضيف، الغريب والمجهول، دلالة على القلب، على انفتاح الروح وسعتها، الباب، سكنى وتجلّ.

Ad

الباب المغلق غامض، سري، يلزمه طرْقٌ وله جاذبية إغوائية، له فرادة الاكتشاف ودعوة غير صريحة للمعرفة. الإنسان الأول، الإنسان البدائي، سكن في البرية والكهوف. الكهوف لا أبواب لها، لأنها عادة ما تكون مخفية. الإنسان الحديث يسكن بين جدران، في عُلب إسمنتية والأبواب يلزمها قفل ومفتاح. لكن قبل الباب هناك العتبة. العتبة هي مركز التردد، الحد الفاصل بين الداخل والخارج. العتبة امتحان القلب، العتبة هبة الغزل إلى الأقدام. لا ينتبه الساكن إلى العتبة ولا العائلة، إنما الضيف، المجهول والغريب.

في رواية الجحيم لهنري باربوس، يلجأ البطل إلى واحدة من الاكتشافات المذهلة: التلصص من ثقب ما. مركز الثقل في الرواية هي تلك الاستيهامات والخيالات الممتزجة بالوقائع، حتى تكاد العين تكون هي البطل، هنا يتم اختراق الداخل بأكثر الأساليب سرّية وعزلة. التلصص فكرة مبنية على الفردية. السينما أيضاً مبنية على فكرة التلصص. لكنها تنزع الطابع السرّي عن العالم. أنت أمام شاشة أو جدار أبيض وهو أشبه بباب مقفل. لكن تلك البقعة الضوئية القادمة من خلفك وأنت غارق في الظلمة ستكون هي المفتاح. ستفتح لك بكرم فياض، عالماً فاتناً لا ينتهي. فإذا الأبواب تنفتح أمامك، لتدخل حتى إلى غرف النوم وإلى أكثر الأماكن حميمية وسرّية. وهكذا يتم انتهاك السّر. هذا ما يحدث أيضاً في الحكايات الشفاهية وفي المرويات الإخبارية وفي ألف ليلة وليلة، هنا تحذّر الحكاية من فتح باب ما، (عادة ما يكون الباب الثالث أو السابع وهما رقمان فرديان)، كل الأبواب يمكن دخولها إلا باباً واحداً. يحتوي التحذير، على الفضول. تقول الحكاية لا تفتح هذا الباب. لكن الحكاية وبطريقة مواربة ترمي إليك بالمفتاح. انه سؤال المعرفة. لكن لنعد إلى العتبة، العتبة أيضاً قد تكون كناية عن الكرم واستقبال الضيف، أو الزوجة. في المدونات التاريخية، تبرز قصة النبي إبراهيم حينما قام بزيارة لابنه إسماعيل أثناء غيابه، وكان النبي إبراهيم قد تنكر على هيئة شيخ أو عابر سبيل. لكن زوجة ابنه أساءت معاملته كضيف. فرحل النبي إبراهيم تاركاً له بلاغاً يقول: «غيّر عتبة بيتك فإني لم أرضها» فلما عاد إسماعيل وفهم الرسالة، طلق زوجته. هكذا تحمل العتبة هنا رمزية مكثفة بين الداخل والخارج، بين الالتحام والانفصال.

* * *

في البيوت العمانية التقليدية، المبنية من الطين، عادة ما تكون أبوابها الخشبية المزخرفة صغيرة ومنخفضة، (استبدلت حديثاً بأبواب حديدية، ملحومة، وبألوان فاقعة منفرة) أو هكذا تبدو بعد أن كبرنا. ولكي ندخل من هذه الأبواب ينبغي علينا، أن نرسم تلك الانحناءة الصغيرة لرؤوسنا. أميل إلى اعتبار هذا الأمر نوعاً ليس من الاحترام فحسب بل أشبه بإلقاء تحية الدخول، للبيت وساكنيه، نوعاً من التبجيل وأنت تدخل إلى مقام آخر، يزداد الأمر تهيباً عندما يكون البيت مهجوراً، فأنت في هذه الحالة تلقي التحية إلى تلك الأرواح الساكنة غير المرئية. يذكر ساران الكسندريان، أن هوس السورياليين، بالغريب والمدهش، دفعهم إلى الاهتمام بفن العمارة، وقد أنجزوا في هذا المضمار صرعات معمارية، في منتهى الغرابة، وقد ذهب سلفادور دالي إلى أنه «ينبغي للعمارة أن تنتج مدركات حقيقية عن رغبات جامدة». وذهب مارسيل دوشامب 1887-1967 صاحب «المبولة» الشهيرة إلى صنع باب شقته، بحيث يمكن فتحه وغلقه في الوقت ذاته. فحين تفتح للدخول إلى غرفة النوم، كان الحمام يغلق وحين يفتح الحمام كان الأستوديو يغلق.

* * *

لماذا هذا الهوس بالأبواب، هل لأن الإنسان في الأصل كائن مغلق؟ ثم انفتح له الباب الأول: باب الرحم وعندما خرج إلى العالم قام هو الآخر باختراع الأبواب. من المعروف أن الأبواب تتخذ عند المجتمعات المختلفة طقوساً تكاد تقترب من التقديس أو دفع الشر والأذى. لذلك يحدث أن تصادف تعويذة معلقة على الباب، على شكل كف «كف العباس» أو «كف فاطمة» أو قبضة يد أو قناع أو حدوة حصان. علامة فاتنة وهي في الوقت ذاته حامية البيت.

* * *