الاغداقات التنموية هل تحول دون المطالبات السياسية؟!


نشر في 04-11-2010
آخر تحديث 04-11-2010 | 00:00
 أ. د. محمد جابر الأنصاري ثمة ملحظ في التاريخ السياسي العربي الحديث أجده جديراً بالتوقف والتأمل، وهو أن تحسن سعر القطن المصري بعد الحرب العالمية الأولى (1914– 1918) قد أدى إلى ما يشبه الرخاء الاقتصادي في مصر سواء بالنسبة لمالكي مزارع القطن، أو لعموم الفلاحين القائمين بزراعته، وأن هذا الرخاء قد أدى إلى «بحبوحة» هيأت المناخ للثورة الوطنية عام 1919 التي كانت حدثاً سياسياً تحولياً بمصر وجوارها العربي، وهذا يعني أن «الثورات» لا تحدث دائماً كما هو شائع لأسباب الضنك الاقتصادي الذي تعانيه الأغلبية، وإنما أيضاً لأسباب الرخاء الاقتصادي الذي «يحرر» الناس من قيود الحاجة فيدفعها إلى التفكير في الثورة! أي في حقوقها السياسية إذا مُنعت عنها.

وفي حالة أخرى، صحيح أن شاه إيران الذي أطاحت به الثورة عام 1979 قد ترك الريف الإيراني في عوز وفقر وضنك، وكانت بطانته الفاسدة والمرتشية تغشه وتخدعه بشأن أوضاع ذلك الريف البائس، إلا أن سياساته التنموية في المدن قد خلقت نخباً مدنية ميسورة الحال سيجد الدارسون أنه كان لها إسهام في الثورة ضده وتحريك «الجماهير» باتجاه معاكس، حيث كان الأفق السياسي أمامها مسدوداً، ذلك لأن التحسن الاقتصادي قد أتاح لتلك النخب فرص التعليم والتقدم في المستوى الاجتماعي، بحيث تأثرت بالأفكار من حولها في العالم، وكان الارتباط بين الثقافتين الفارسية والفرنسية من أهم عوامل انتقال الأفكار الراديكالية إلى الداخل الإيراني.

وفي العراق، كان «مجلس الإعمار» الذي أنشأه نوري السعيد أداة فعّالة لإقامة عدد من المشروعات الإنمائية، غير أن الغمامة السياسية التي حجبت رؤية النظام العراقي القائم في حينه للواقع العراقي، والهوس الذي أصابه- ضد العناصر الوطنية والتقدمية واليسارية والشيوعية- هو الذي أدى إلى نشوء فجوة هائلة وعداء مستحكم بينه وبين أغلبية العراقيين، مما أدى، في النهاية، إلى سقوطه عام 1958 في تلك السقطة الدموية التي كانت بمنزلة «الوصمة» في جبين العرب، ولا تُشرف التاريخ السياسي العربي المعاصر.

والسؤال: لو كان النظام العراقي في حينه «منفتحاً» على المعارضة السياسية ومتحاوراً معها، فهل تتطور الأمور باتجاه ما انتهت إليه.

ويمكن القول إن «دار ابن لقمان»– أعني العراق– ظلت على حالها، مع مراوحات قصيرة في المنتصف حتى السنوات الأخيرة من عهد صدام حسين، فقد كان النظام يبدو منشغلاً بالتنمية، ولكن استبداد صدام السياسي الدموي الرهيب، وعدم استعداده لسماع الحقائق حتى من أركان نظامه، تحت طائلة الإعدام، عدا أنه فاز بنسبة 100% في الانتخابات الأخيرة (!!) كان من أهم أسباب سقوطه في النهاية.

هذا لا يعني أن التنمية لا يمكن أن تتحقق إلا بالديمقراطية الانتخابية، ففي كوريا الجنوبية والصين، نرى أن تنمية مهمة تحققت وتتحقق دون أن تكون ثمة ديمقراطية سياسية بالمعنى الكلاسيكي. غير أن التنمية لا يمكن أن تحول دون تصاعد المطالبات السياسية، كلما تزايدت امتيازاتها، كما نجد بالذات في البلدين الآسيويين المذكورين، وقد استجابت كوريا الجنوبية بالفعل، بعد عدة انقلابات عسكرية واضطرابات سياسية، للمطلب الديمقراطي، وفي تقديرنا أن الصين ستلحق بذلك، وإن يكن ليس بالسهولة التي يتوقعها الكثيرون.

لم يعد الاستبداد السياسي السلطوي مقبولاً في عالمنا المعاصر، وفي بلادنا الخليجية والعربية، نحتاج أولاً إلى تجهيز بُنية تنموية تحتية واستكمال متطلباتها ليقوم على أساسها انفراج يناسب ظروف البلد المعني من خلال إيجاد طبقة متوسطة مهيأة للإصلاح السياسي، وليس عيباً أن نعلن ما ينقصنا، وليس ضرورياً أن نتظاهر بأن كل شيء على ما يرام وليس في الإمكان أبدع مما كان.

ولقد قدر العالم عالياً قيام الملك عبدالله بن عبدالعزيز ملك المملكة العربية السعودية أمام عدسات الإعلام بزيارة أحياء الفقر في العاصمة السعودية، وتفقده أحوالها، وإصدار أمره بإقامة مشاريع الإسكان الضرورية لها، فذلك لا يعيب أي نظام، بل يشرفه، وذلك هو المدخل الصحيح للاتجاه نحو الأفضل.

إذا صح ذلك، من حيث المبدأ العام، فإن إغداق الامتيازات والفوائض النفطية على المجتمعات ذات الدخول المرتفعة والأعداد الضئيلة من السكان لن يؤدي إلى صرفها عن المطالبة بحقوقها السياسية، وإن تعمد «تأجيل» هذه الاستحقاقات التي يمكن أن يُعلن عنها دستورياً (مع وقف التنفيذ!) يمكن أن تؤدي إلى التهدئة لبعض الوقت لكنها لن تكون مجدية كل الوقت... فكلما تحسن المستوى الاقتصادي للناس وتمتعوا بمعيشة أفضل، فكروا في حقوقهم السياسية وما يتحقق في عالم اليوم لأمثالهم في المجتمعات الأخرى من إصلاحات دستورية وسياسية متقدمة.

لذلك فإن أي خطة تنموية لابد أن تتماشى معها وتوازيها خطة للإصلاح السياسي، ولا يكفي التوقف عند بذل جهود الإنماء الاجتماعي والاقتصادي، فهذه الجهود، على أهميتها، يمكن أن تضيع هباءً إذا لم ترافقها وتسير معها جنباً إلى جنب خطة سياسية تستوعب الذين استفادوا من التنمية، و»تحرروا»– واقعاً وفكراً – من أعباء الضغوط المعيشية.

ولقد جاء المشروع الإصلاحي لملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة، كإصلاح سياسي، في لحظته التاريخية المناسبة بعد أن خطت بلاده خطوات واسعة في التنمية الاقتصادية، غير أن السياسة والاقتصاد يجب أن يسيرا يداً بيد، لذلك فقد جاءت من جديد رؤية البحرين الاقتصادية لعام 2030، ترجمة لابد منها لبناء اقتصادي تنموي متين ومستدام.

* مفكر من البحرين

back to top