"جيمس بارتون" كاتب أميركي زار بلدان الشرق الأوسط في بدايات القرن الماضي، وألف كتباً عدة عن رحلاته في ربوعها، أشهرها كتاب "ابن الصحراء" الذي روى فيه الكثير من الحكايات، من بينها حكاية منشورة في عدد قديم من أعداد مجلة "المختار" عام 1943، يقول فيها:

Ad

"خرجت يوما من بلاد الشام قاصداً بغداد في قافلة لشيخ العرب "محمود بن موسى" قوامها تسعون جملاً، وقد امتطى الشيخ حماراً أبيض كان يبالغ في بره وإكرامه لدرجة تلفت النظر، وكان رجال قافلته التسعة عشر من أبناء البادية، وكانت أوامر الشيخ هي قانونهم الوحيد، وعلى يديه ينالون ثوابهم وعقابهم.

وكنت أحمل ثمانين جنيهاً ذهبياً في حقيبة من الجلد أحفظها معي في خيمتي إذا جن الليل، وكل صباح أحرص على دس يدي في الحقيبة لأتحقق من سلامتها، وقد راعني في صباح اليوم التاسع ضياعها، فبادرت إلى ابن موسى وقلت: "يا محمود... ثمانية أيام وأنا ضيفك"... فضرب ابن موسى بيده على صدره ثم قال: "أحب شيء إلى العرب إكرام الضيف".. تابعت: "لكن سحابة حجبت شمس ابتهاجي، وسأخبرك بما حدث لأنني ضيفك"، وأبلغته خبر ضياع الحقيبة، فألقى علي بعض الأسئلة، ثم قعد صامتاً يمسح لحيته بيده وقال: "قبل غروب الشمس، ستجد ذهبك بين يديك، اذهب بسلام".

بعد ساعة... رأيت الشيخ يهيم بعيداً، ولم يعد حتى انتصف النهار، فدخل خيمته وأسدل بابها، وأمر بألا يزعجه أحد، فأخذ يساورني القلق على مالي، فالرجل الوحيد الذي يستطيع رده عليّ نائم! بعد ثلاث ساعات خرج الشيخ ودعا بالعشاء، فساورني الشك وبدأت أرتاب بالشيخ نفسه!

حين فرغ القوم من عشائهم دلف الشيخ من خيمته مرتدياً أبهى ثيابه واعتلى كومة الأحمال المكدسة في وسط المكان ثم أومأ إليّ أن أجلس قريباً منه، بعد قليل، نادى بصوت متجهم: "اجمعوا الرجال جميعاً"، فلما اجتمعوا، صعد نظره وصوّبه في وجوه رجاله العاتية، وكل عين قد تعلقت به، دام ذلك خمس دقائق على الأقل، ورأيت الرجال قد أُخذوا، فلم تتحرك عضلة ولم تطرف عين، ولما انتهى الشيخ من استعراضه الصامت أنشأ يقول في عبارات محكمة: "اليوم أُلبست ثوب الخزي بين يدي الله، لقد أمنني إلي هذا السائح فإذا هو يسرق في بيتي، ومادام لم يطرق بابنا غريب، فالسارق هنا أمامي"!

بعد ذلك صب الشيخ لعناته على الجميع، وأنه ما من عقاب يشفي غليله بهذا المجرم، وأن الله يأمره بأن يهلك الجاني ويرد الذهب، وكان كلما أوغل ارتفع صوته ثم سكت بغتة، قال: "إن في الخيمة حماري الأبيض الكريم، وهو لا يستطيع أن ينطق بلغتنا لأنه خلق حماراً، لكن روحه فيها نفحة عالية، وسيخاطبنا بطريقته مشيراً إلى السارق، لذا آمركم ان تدخلوا خيمتي واحدا بعد واحد، ومن دخل فليسدل سترها عليه، ثم ليجذب ذيل الحمار، لأن اليد البريئة حين تمس الذيل يظل الحمار ساكناً، وأما حين تمسه يد السارق فسوف ينهق من فوره، وستكون هذه رسالة الحمار لنا كي نقبض على السارق، ونذبحه بلا رحمة!

وبدأ القوم في الدخول... فقام الأول ودخل الخيمة، ولبث بها بضع ثوان ثم عاد إلى مجلسه، فأومأ الشيخ إلى ثان وثالث، وبمرور الوقت، كان من الصعب أن تعرف أينا كان أكثر اضطرابا، أنا أم هؤلاء الرجال، ففي الوقت الذي فيه كنت مصغياً للنهيق المنتظر، كنت فزعاً من انتقام قد أشهده في حال براءة الجميع! لم يبق إلا ثلاثة، وزاد اضطرابي، السابع عشر، الثامن عشر، والآن الأخير، دخل وخرج والحمار صامت، واحسرتاه، لقد أوكلت قضيتي إلى حمار فخسرت كل شيء، لكن الشيخ قال في سكون: "إلزم الصمت، كل شيء على ما يرام"!

فجأة... صاح بهم: "أبسطوا أيديكم" فبسط كل واحد كفيه، ونزل الشيخ من منصته قاصداً أول من دخل الخيمة ووضع وجهه في راحتيه الممدودتين، ثم الذي يليه، فالذي يليه، حتى أقبل على الرجل الثاني عشر ومال بوجهه على راحتيه، فلم يلبث أن ارتد عنه، وسدد رمحه اليه قائلاً: "أيها اللص الكلب القذر، هات الذهب من فورك وإلا بقرت بطنك" فأكب الرجل على قدميه يسأله الرحمة، ثم هب قائما، وانطلق إلى ما وراء الجمال، فرفع حجراً مستويا ونبش التراب، ثم عاد ومعه حقيبتي!

وضعت الحقيبة بين يدي، فوجدت الذهب لم يمس، بعد ذلك، أمر الشيخ رجلين من رجاله أن يجلدا السارق، وبعد بضع جلدات، شفعت له، فأطلق، وانقلب الشيخ إلى خيمته وانفضّ الجمع، لكنني كنت في شوق لأعرف من الشيخ كيف توصل إلى معرفة اللص، فلما رحلنا في اليوم التالي، سألته أن يبين لي ذلك، فنظر إلي ساخراً وقال: "سأقول لك... ولكن لا تحدث رجالي بما تسمعه، لقد غمست ذيل الحمار بمحلول النعناع ثم جففته، وكلهم أمسك بذيله إلا السارق، ولذلك كانت يده هو وحدها التي لا رائحة للنعناع فيها" فقلت وأنا لا أملك نفسي: "ما شاء الله... الله أكبر"!

لله در الشيخ محمود... ترى... كم حماراً "منعنعاً" سنحتاج للقضاء على سراق المال العام، خصوصاً ونحن مقبلون على مشاريع حكومية بقيمة 38 مليار دينار؟