مبررات العودة إلى تنظيم الحسابات الرأسمالية

نشر في 16-11-2010
آخر تحديث 16-11-2010 | 00:00
إن السبيل الأفضل للمضي قدماً بالنسبة للأسواق الناشئة يتلخص في تصحيح الحوافز لموازنة أسعار الفائدة عند منبع التدفقات الرأسمالية، ومثل هذا الإصلاح من شأنه أيضاً أن يخدم كآلية للتنسيق على المستوى الدولي، وذلك نظراً لصعوبة الاتفاق على تنظيمات منسقة للحسابات الرأسمالية بين البلدان المتلقية لتدفقات رأس المال.
 بروجيكت سنديكيت تكشف النقاشات الدائرة اليوم بشأن «حروب العملة» عن مفارقتين تسمان الاقتصاد العالمي: الأولى تتلخص في غياب أي آلية تربط قواعد التجارة العالمية بتحركات أسعار الصرف، ففي الوقت الذي تقضي فيه بلدان العالم أعواماً في التفاوض على قواعد التجارة، نرى تحركات أسعار الصرف بوسعها في غضون بضعة أيام قليلة التأثير على التجارة بشكل أعظم من تلك الاتفاقيات المضنية، فضلاً عن ذلك فإن تحركات أسعار الصرف تتحدد في الأساس استناداً إلى التدفقات المالية وقد لا يكون لها أي تأثير فيما يتصل بتصحيح الخلل التجاري العالمي.

والمفارقة الثانية هي أن التوسع النقدي قد يكون غير فعال إلى حد كبير في البلد الذي يتبناه، ولكنه قادر على توليد عوامل خارجية سلبية ضخمة في بلدان أخرى، ويصدق هذا بشكل خاص على التيسير الكمي الجاري الآن في الولايات المتحدة، وذلك لأن الدولار الأميركي هو العملة الاحتياطية العالمية الرئيسة.

حتى الآن، في ظل الأزمة المالية وما تلاها من ركود، كانت الولايات المتحدة عاجزة عن تعزيز الائتمان ودفعه إلى النمو، رغم أن نمو الائتمان يشكل الآلية الانتقالية الرئيسة التي يتغذى عليها التوسع النقدي عبر النشاط الاقتصادي المحلي. ولكنه يحث تدفقات رأس المال الهائلة على التوجه إلى الأسواق الناشئة، حيث تعمل على توليد فقاعات أسعار الأصول. وإذا أدى هذا إلى إضعاف الدولار فإنه قد يخلف أيضاً آثاراً سلبية على الشركاء التجاريين. (وبوسعنا أن نقول نفس الشيء عن قرارات السياسة النقدية التي تبنتها اليابان أخيراً).

إن بعض المقترحات قد تساهم في حل أول هذين التناقضين من خلال السماح للبلدان باستخدام آلية حل المنازعات التابعة لمنظمة التجارة العالمية في حالات التلاعب في أسعار الصرف، ولكنه السبيل الخطأ على أي حال، وذلك لأنه قد لا يخدم كسبب لتآكل إحدى الآليات القليلة الفعالة لجعل الاتفاقيات المتعددة الأطراف ملزمة.

والواقع أن الرسوم الجمركية التعويضية التي يفرضها جانب واحد ضد البلدان التي يفترض ظناً أنها تتلاعب في أسعار صرف عملاتها لا تقل سوءاً، وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن الصين لا ينبغي لها أن تتخذ أي إجراء لتصحيح تقييم عملتها أقل من قيمتها، ولو أننا لابد أن نعترف بإسهامها في حل هذه المشكلة من خلال السماح للأجور المحلية بالارتفاع. والطريقة الأفضل كثيراً للمضي قدماً تتلخص في إعادة النظر بجدية في الدور الذي تلعبه القيود التنظيمية المفروضة على حسابات رأس المال عبر الحدود، ومن بين مناطق الاتفاق الرئيسة في أثناء الأزمة الأخيرة كان الإقرار بأن الأنشطة المالية المحررة من القيود التنظيمية قد تشكل مصدراً رئيساً لاختلال الاقتصاد الكلي.

بيد أن مجموعة العشرين ركزت إلى حد كبير على إعادة تنظيم التمويل المحلي، في حين استبعدت مسألة التمويل عبر الحدود بالكامل من أجندتها، وكأنها لا تحتاج إلى تنظيم، بل كأنها لا تشكل جزءاً من التمويل العالمي. وينطوي هذا الأمر أيضاً على تشوه لغوي خاص: حيث يطلق على القيود المحلية «تنظيمات محلية»، ولكن إذا اشتمل الأمر على تدفقات عابرة للحدود فإن هذه القيود يطلق عليها مسمى «ضوابط».

والواقع أن المناقشة الجادة لتنظيمات الحسابات الرأسمالية العالمية قد تفيد كثيراً الأسواق المتقدمة والناشئة، ومن الممكن تعزيز فعالية التوسع النقدي في البلدان المتقدمة من خلال الحد من التسربات الناتجة عن الاتجار في المال (كاري تريد) وغيرها من أشكال تدفق رأس المال القصير الأجل إلى الخارج.

وهذا يعني ضمناً العودة إلى المبدأ المؤسس لصندوق النقد الدولي: والذي يزعم أنه من مصلحة كل البلدان الأعضاء أن يتم السماح للبلدان بملاحقة سياسات الاقتصاد الكلي اللازمة للتشغيل الكامل للعمالة، حتى لو كان ذلك يتطلب تنظيم التدفقات الرأسمالية. ولهذا السبب تسمح القواعد التي يتبناها صندوق النقد الدولي بتنظيم الحسابات الرأسمالية، ولنفس السبب فشلت محاولات عام 1997 لإدراج قابلية تحويل الحسابات الرأسمالية تحت بنود الاتفاقية المؤسسة لصندوق النقد الدولي. أما بالنسبة للأسواق الناشئة فإن السبيل الأفضل للمضي قدماً يتلخص في تصحيح الحوافز لموازنة أسعار الفائدة عند منبع التدفقات الرأسمالية، ومثل هذا الإصلاح من شأنه أيضاً أن يخدم كآلية للتنسيق على المستوى الدولي، وذلك نظراً لصعوبة الاتفاق على تنظيمات منسقة للحسابات الرأسمالية بين البلدان المتلقية لتدفقات رأس المال، وفي غياب مثل هذا التنسيق فقد تتسبب التوجهات الأحادية السائدة الآن في توليد المزيد من التشوهات.

وهذا النمط من التصحيح من شأنه أيضاً أن يسمح للأسواق الناشئة بتطبيق سياسات نقدية أكثر صرامة، وهو ما تحتاج إليه الآن، في ضوء تزايد قوتها في مجال الاقتصاد الكلي. والواقع أن العالم سيتسم لسنوات عدة بالتفاوت الناجم عن ضعف البلدان المتقدمة وتزايد قوة الأسواق الناشئة، وهو ما يدعو إلى التفاوت وعدم التكافؤ بين السياسات النقدية لهاتين الفئتين من البلدان. ومن المؤكد أن التعامل مع هذا التفاوت أمر بالغ الصعوبة في غياب أي شكل من أشكال تنظيم الحسابات الرأسمالية. وقد تكون العديد من القيود التنظيمية منطقية، كما أقر صندوق النقد الدولي في العديد من الحالات، ومن بين هذه القيود التنظيمية فرض متطلبات الاحتياطي على التدفقات العابرة للحدود، فالصناديق المشتركة وصناديق الملكية الخاصة تتطلب الحد الأدنى من الشروط للاستثمار، ولابد من تطبيق فترات المنع النقدي هذه على التدفقات الرأسمالية أيضاً. ولابد أيضاً من فرض متطلبات عالية على رأس المال على معاملات بعينها، أو حظر هذه المعاملات بالكامل، وذلك لأسباب تحوطية. ويصدق هذا بصورة خاصة فيما يتصل بتقديم قروض بعملات أجنبية لوكلاء اقتصاديين لا يحصلون على عائدات بهذه العملات. وفي دول المنبع الرأسمالي فإن فرض متطلبات رأسمالية على عدم تطابق العملات في المحافظ الاستثمارية، إلى جانب فرض متطلبات هامشية على مشتقات الصرف الأجنبي، لهو أمر منطقي، ولابد أن تخضع العقود الآجلة غير القابلة للتسليم لقيود تنظيمية أكثر صرامة في كل من بلدي المنشأ والمقصد، والواقع أن فرض ضريبة على تعاملات صرف العملات الأجنبية- «ضريبة توبين»، التي نادى بها رجل الاقتصاد الراحل جيمس توبين الحائز على جائزة نوبل- قد يكون السبيل الأفضل للمضي قدما.

* خوسيه أنطونيو أوكامبو، أستاذ في جامعة كولومبيا، ورئيس اللجنة المستقلة لإصلاح ضريبة الشركات الدولية، وكان وزيراً للمالية في كولومبيا، ووكيلاً للأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top