لابد من التمييز بين المواقف والمصالح في عملية التفاوض، إذ إن الأطراف التي تفرقها المصالح قد تجمعها المواقف المشتركة، مثل ناشطي البيئة وأعضاء النقابات العمالية الذين عارضوا اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية التي وُقّعت في تسعينيات القرن الماضي. كذلك كما هي الحال في أغلب الأحيان، يعجز الفرقاء المتعارضون في مواقفهم عن إدراك مصالحهم المشتركة، مثل الوالدان الراغبان في الطلاق واللذان تعميهما عدائيتهما عن رؤية ما هو أفضل لأولادهما.   

Ad

ومن ثم فقد دفع الإغفال عن هذا الفارق الأساسي اليوم بالولايات المتحدة إلى أن تهرع لإنقاذ محادثات السلام في الشرق الأوسط المهددة بتجدد الخلاف حول النشاط الاستيطاني الإسرائيلي. بدايةً اعتبرت إدارة أوباما مسألة المستوطنات مشكلة سهلة الحل، لأن الفلسطينيين، والدول العربية، والرأي العام الدولي، وحتى الكثير من الإسرائيليين عارضوا النشاط الاستيطاني، بينما أيدته أقلية واضحة في اليمين الإسرائيلي. لذلك رأى البيت الأبيض في الإصرار على تجميد عمليات الاستيطان وسيلة لاستعادة الثقة بحيادية الولايات المتحدة خلال إطلاق عملية السلام. لكن كما هو معروف اليوم، حدث العكس تماماً، ذلك أن العلاقات الأميركية تضررت مع جميع الأطراف، وعملية السلام لم تقلع بعد.      

لفهم ما الخطب، لابد من تجاهل الموقفين الإسرائيلي والفلسطيني حول المستوطنات وفهم طبيعة المصالح التي يروّج لها كل طرف.

أوضح رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، في خطاب ألقاه في 14 يونيو 2009، سبب معارضته تجميد بناء المستوطنات. يؤكد في تعليقاته أن أساس الصراع كان، ولايزال، "رفض الاعتراف بحق الشعب اليهودي في إقامة دولة خاصة به في موطنه التاريخي". برأيه، بدأت المساعي العربية إلى إزالة إسرائيل في عام 1947 حين اقترحت الأمم المتحدة تجزئة فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية، ولم تنحسر فعلياً منذ ذلك الحين بالرغم من اتفاقيتي السلام اللتين وقعتهما إسرائيل مع مصر والأردن. لذلك يشكل انطلاق تلك المساعي قبل سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية وغزة في عام 1967، واستمرار إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان وغزة بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من كلا الأرضين، في نظر نتنياهو والكثير من الإسرائيليين، دليلاً على أن وجود القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية ليس السبب وراء العداء لهم.  

تلك هي المصلحة إذن المتمثلة في الدفاع عن استمرار وجود دولة يهودية تتعرض لهجوم منذ تأسيسها التي تدفع بنتنياهو إلى الإصرار على أن يعترف الفلسطينيون علناً بإسرائيل كدولة يهودية، ورفض تجميد بناء المستوطنات. فإن لم ينفذ الفلسطينيون والعرب المطلب الأول، يعتبر نتنياهو وحلفاؤه مسألة التجميد غير مجدية على أفضل تقدير وعوناً خطيراً على أسوأ تقدير لأولئك الذين سينزعون عن إسرائيل صفة الشرعية. وبالرغم من أن إسرائيليين كثيرين يخالفون نتنياهو في موقفه حول المستوطنات، فإنهم يشاطرونه مصلحته في الدفاع عن شرعية إسرائيل، ولذا جاء رد فعلهم سلبياً لما اعتبروه مقاربة قاسية من قبل واشنطن.

أما القصة الفلسطينية فمختلفة كلياً. شكلت أحداث عام 1948 بالنسبة إلى الفلسطينيين كارثة أدت إلى شتاتهم وتهجيرهم، فكانوا في الدول التي استقبلتهم، مع بعض الاستثناءات، لاجئين أو عمالاً زائرين لا يتمتعون بكثير من الحقوق ولا يلقون احتراماً، بالرغم من الكلام الواهي عن نصرة القضية الفلسطينية. لسنوات، لم يكن للفلسطينيين رأي كاف في تلك القضية، ولم تحظ الدولة المستقلة المرتقبة في عام 1947 بدعم من القادة في المنطقة أو أي مكان آخر.

لذلك يرى الفلسطينيون في هاتين المصلحتين التوأمتين- العدالة للاجئين الذين عوملوا كمواطنين من الدرجة الثانية في المنطقة طوال ستين عاماً، وضمان أن تظل أي دولة فلسطينية قابلة للحياة- دافعاً وراء معارضتهم الشديدة لاستمرار النشاط الاستيطاني الإسرائيلي. في نظرهم، من غير المنطقي خوض مفاوضات هدفها تحقيق هاتين المصلحتين والقبول في الوقت عينه بالنشاط الذي يقوضهما.

يُذكَر أن نتنياهو عرض يوم الاثنين تمديد قرار تجميد بناء المستوطنات الإسرائيلية إن اعترف الفلسطينيون بإسرائيل كدولة يهودلة، لكن هؤلاء رفضوا على الفور. بالنظر إلى المصالح المذكورة أعلاه، قد يتضح لنا سبب تقديم إسرائيل هذا العرض، فضلاً عن سبب رفض الفلسطينيين له. إسرائيل على استعداد لتغيير موقفها بشأن تجميد المستوطنات إن تحققت مطالبها، لكن الفلسطينيين على غرارها يرغبون في رؤية مصالحهم تتحقق، وليس القبول فحسب بمواقفهم بشأن تجميد الاستيطان. لهذا السبب، أصر الفلسطينيون من جهتهم على أن تعلن إسرائيل والولايات المتحدة  "حدود عام 1967" أساس المفاوضات حول حدود أي دولة فلسطينية قد تُقام وذلك لضمان حياة هذه الدولة.  

وهكذا يُعتبر الخلاف حول تجميد بناء المستوطنات صراعاً بالوكالة حول المصالح المتضاربة لكل طرف. لكن بما أن تلك المطالب لن تُلبّى إلا بواسطة المفاوضات، ولن يقبل بها أي طرف قبل المحاثات، يستحيل التوصل إلى تسوية مستدامة طالما أن التجميد يمثل مشكلة. لذلك، فإن تمديد التجميد لفترة موقتة كما تحاول الولايات المتحدة على ما يُفترض أن تفعل يرجئ الأزمة فحسب ليوم آخر. وللمضي قدماً في المحادثات، فإن على إدارة أوباما الإقرار بأنها أخطأت في التركيز مبكراً على مسألة المستوطنات من أجل درء اللوم والغضب اللذين قد يُوجهان إلى نتنياهو ورئيس السلطة الفلسطينية لتغييرهما موقفيهما.

مع ذلك، الإيجابي في الأمر أنه بالرغم من التناقض على ما يبدو بين الموقفين الإسرائيلي والفلسطيني بشأن تجميد بناء المستوطنات، فإن المصالح التي تشكّل أساس هذين الموقفين مشتركة. تشير البيانات الاستطلاعية والأدلة التحليلية إلى أن الطرفين مستعدان لحل إقامة دولتين. فضلاً عن ذلك، للطرفين مصالح أخرى، مثل الرغبة في السلام، والسكينة لشعبيهما وكبح المتطرفين الذين ترعاهم إيران، ما يعزز دافع كل منهما لإيجاد أرضية مشتركة. هنا على الوساطة الأميركية أن تؤدي دورها عبر مساعدة الطرفين على تخطي خلافاتهما في المواقف، والاعتراف بمصالحهما المشتركة.

* مايكل سينغ | Michael Singh