آخر وطن: الحلم و... الدوبلير

نشر في 22-04-2011
آخر تحديث 22-04-2011 | 00:00
 مسفر الدوسري نُفاجأ أحيانا بأحبّة أصبحوا فجأة غرباء،

وفجأة لم يعد مألوفا لنا منهم سوى ملامحهم، هذا إن بقيت على حالها!

رائحتهم لا تعود كما نعرفها كرائحة زهرة قرنفل بلّلها الطلل للتوّ، وإنما أصبحت كرائحة وحلٍ قديم استوطنه الذباب.

وعيونهم ليست كسابق عهدها مرفأ للنجوم، وإنما حفر غائرة بالعتمة الموحشة، وأنفاسهم لا تعود كما عرفناها مباخر للشذا، أصبحت تنّوراً ينفث اللهب الحارق، ولم تعد كفوفهم مشاتل الغيم، بل أصبحت فجأة براري لا ينبت بها سوى أشجار الحرمل وإثل الخيبة، أحبّة كنا نأمَن أحضانهم، ونجدها مأوانا الأخير الذي نرتل في بهائه أناشيد السكينة، وإذ بتلك الأحضان تتحول إلى منافٍ مُغلقة سماؤها، وليس لأقفال أفقها مفاتيح، فجأة نكتشف أننا كنا طوال الزمن الماضي ننام في سرير الغرباء، أو جعلناهم يشاركوننا أسرّتنا، ووسائدنا، وكنا نرتّب معهم شراشف أحلامنا، ونطرّز أطرافها سويّاً بدانتيل الفرح، وكنا نتشارك معهم موقد الشتاء، والأحاديث التي 'تُسنبل' الدفء حول ذلك الموقد،

ونُطعمهم خبز المحبة بأيدينا العارية من دون أن ننتبه لأنيابهم الطويلة الحادة.

الآن فقط عندما نتذكر ذلك نحمد الله كثيرا أن أصابعنا مازالت على حالها، وأن كفوفنا، وأذرعتنا كذلك!

إلا أننا نكتشف في ذات الوقت أن ما التُهم منا، أكبر كثيرا من الأصابع والكف والذراع، إن ما التُهم منا عمر خبّأنا في جراره سمن الأماني، ودقيق الحياة!

نُفاجأ بأن من تشابكنا معهم الأيادي وأسندنا رؤوسنا على أكتافهم خلال السير في شوارع يملأها الظلام مطمئنين لهم، نكتشف أنهم في تلك الأماسي الحميمة كانوا يخبئون الخناجر الحادة تحت عباءة تودّدهم لنا، فنحمد الله أن أرواحنا لم تُزهق حينها غدراً، في الوقت الذي نتيقّن بأن ما أُزهِق أثمن من الروح، أو يعادلها!

نرى الآن هؤلاء الذين كانوا أحبّةً يوما فلا نجد سوى ملامحهم، أما ما تعنيه تلك الملامح لنا، والمعاني التي ضربت أطنابها في قاع أنفسنا زمنا فقد أُزهقت مع جملة ما أُزهق، وولّت من ضمن ما ولّى، وكان ذلك كافيا لوقوع يمين الفراق بالثلاث.

إلاّ أننا وبغباء مفجع، نظل نبكي فراقهم، ونتمنى سرا أن يعودوا!

لماذا؟!

كيف نشتاق إلى أشخاصٍ أصبحوا غرباء، لا يشبهون أحبّتنا الذين كنا نعتقد أننا نعرفهم؟!

هل من الطبيعي أن نبكي فراق من لا نعرفهم عندما يرحلون؟1

هل من المنصف لأنسانيتنا أن نتمنى العيش عمرا ثانيا نعرف سلفا أنه سيضيع هدراً؟!

ما الذي يدفعنا شوقاً إلى الحلم بالارتماء ثانية في أحضانٍ عرفنا الآن أنها ليست سوى فخّا نُصب لاصطيادنا والقضاء علينا؟! ما الذي يغرينا لأكل الطُعم مرّةً ثانية، وربما ثالثة، وربما أكثر؟!

وكيف تنطلي علينا خدعة الحنين عندما يضع مساحيق الماكياج على وجهه، فنصدّق أنه لا يشبه وجه ذلك الحنين الذي استغلّ براءة مشاعرنا ورمى بها إلى التهلكة؟!

باختصار... كيف نَحِنُّ لأشخاصٍ نعرف الآن مدى بشاعتهم وقبحهم؟!

أم تُراه حنينا لعمر توهّمنا جماله؟!

أم أنها محاولة لإكمال حلم نظن أنه لم يكتمل، كما يحدث في بعض الأفلام عندما يتوفى البطل فجأة فيحاول المخرج إكمال الفيلم بممثل شبيه بالبطل الراحل حتى ولو لم يتحلَ بموهبته؟!

بعضنا يفعل ذلك...!

back to top