في أثناء غداء مؤلف من طبق رز ولحم الماعز في أحد مطاعم كابول الواقعة في الأزقة، كان قائدان متوسطا الرتبة من حركة «طالبان» يستمتعان بتناول الطعام الدسم. كان الأكبر سناً بينهما، وهو رجل مضحك في منتصف العمر، يحمل مسدساً مدسوساً بطريقة ذكية في معطفه الفضفاض، مسؤولاً عن قيادة قوة متمردة في مرجة، وتقع هذه المنطقة في محافظة هلمند الجنوبية، وقد ادعت القوات البحرية الأميركية أنها سيطرت عليها في وقتٍ سابق من هذا العام.

Ad

خلال العقدين الماضيين، لطالما كان هذا المقاتل مسلحاً بشكلٍ شبه دائم، فقد نشأت حركة «طالبان»، وهي جماعة إسلامية تسيطر عليها قبيلة بشتون الجنوبية، في أوائل التسعينيات بهدف وضع حدٍّ لحربٍ أهلية مريرة، وفي ظل الدعم الباكستاني، حققت الحركة بعض النجاح، فسيطرت على معظم أجزاء البلاد بين عامي 1996 و2001. لكن عندما استهدفتها الولايات المتحدة وسلبت منها السلطة في إطار تداعيات أحداث 11 سبتمبر المحتدمة، استعادت الحركة طرفي حدود أفغانستان الوعرة مع باكستان وشنت حرباً مقدسة جديدة، وعلى الرغم من انتشار 130 ألف عنصر من قوات حفظ السلام التابعة لمنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أفغانستان، تسيطر «طالبان» اليوم على أجزاء كبيرة من جنوب أفغانستان وشرقها.

في هذا السياق، يقول القائد المسؤول في مرجة إنه حارب في أماكن عدة، فغالباً ما تنقل حركة «طالبان» ضباطها إلى أماكن مختلفة كي لا يصيبهم الجشع فيسيئون إلى السكان المحليين، ونتيجةً لذلك، لا يتسنى له رؤية أفراد عائلته كثيراً، بحسب ما قال بكل أسى: «ربما مرة في الشهر بمشيئة الله».

يقول هو ورفيقه، قائد آخر في غيريشك، مدينة أخرى في محافظة هلمند، إنهما ملتزمان بتخليص أفغانستان من القوات العسكرية الأجنبية واستعادة السلطة، وبحسب قولهما، فقد تزودا بما يكفي من المال والأسلحة من قادتهما القابعين بأمان في باكستان، ومثل معظم الشعب الأفغاني، هما يغليان من الغضب لدى مقتل المدنيين بسبب الضربات الجوية التي تقودها قوات «الناتو»، علماً أن عدداً أكبر من الضحايا يسقطون بفعل القنابل التي تزرعها «طالبان» على جانب الطرقات.

وكما كان متوقعاً، أبدى الاثنان رفضهما القاطع لخطوة حديثة أقدمت عليها الحملة التي تقودها قوات «الناتو» والتي تمثّلت باستدعاء 30 ألف جندي أميركي إضافي إلى جنوب أفغانستان، ورداً على الادعاءات القائلة إن زيادة عدد الجنود حققت بعض النجاح، بما في ذلك تعزيز سيطرة الحكومة على مدينة غيريشك، أبدى القائد الأصغر سناً رداً عنيفاً، قائلاً: «خارج هذه البلدة، ثمة منطقة حربية».

صحيح أن القائدين كانا لائقين ومضيافين على نحوٍ ملحوظ، إلا أنهما عبرا عن وجهات نظر قبيحة، فحين سُئلا عن الاعتداءات الإسلامية بالحمض الحارق على طالبات في قندهار، أجاب أحدهما: «ما الذي تستحقه تلك الفتيات غير ذلك؟ المرأة الصالحة تحتاج إلى الإسلام حصراً، لا إلى المدرسة». على صعيدٍ آخر، قاما بانتقاد فشل حكومة الرئيس حميد كرزاي في السيطرة على جرائم التهريب في أفغانستان مع تقديم التبريرات اللازمة لشرح موقفهما، غير أن ردهما على هذه المشكلة كان من النوع الذي تروج له حركة «طالبان»، فقال الرجل الأكبر سناً بكل تعجب واندهاش: «تحت حكم حميد كرزاي، لم يتم إعدام ولو قاتل واحد علناً! ولم تُقطَع يد أي سارق!»

في عدد كبير من المناطق التي تسيطر عليها «طالبان»، يُقال إن عقوبات بالنفي تُفرَض في بعض الجرائم، ويبدو أن السكان المحليين راضون عن هذا الوضع القائم بعد أن سئموا من انفلات الوضع القانوني، حتى أن بعض الذين يقيمون في مدنٍ تسيطر عليها الحكومة يقصدون محاكم الشريعة التابعة لـ»طالبان» بحثاً عن العدالة، رافضين بذلك المحاكم البديلة التي ترعاها الحكومة الفاسدة.

بدا القائدان واثقين من تحقيق النصر، فأكدا أن «طالبان» لن تتفاوض مع كرزاي، في الإطار عينه، قال أحدهما: «يقف الجميع ضد الحكومة لأنها تعمل بقيادة الأجانب. لا يمكن تسوية هذه المشكلة عبر إجراء المحادثات، بل عبر رحيل الأجانب عن أفغانستان». بعد ذلك، غادر الرجلان المطعم وأثناء نزولهما السلالم، احتكا بعنصري شرطة لم يتعرفا على هويتهما، ثم ذهبا يبحثان عن سيارة أجرة للعودة إلى ساحة القتال.

من الصعب معرفة مدى صحة تمثيلهما لمواقف «طالبان» ودرجة رتبتهما في الحركة، لكن تتعارض وجهات نظرهما، بالإضافة إلى آراء قائدين آخرين في «طالبان» كانا قد أجريا مقابلة في كابول، مع الآمال المعقودة حديثاً بانطلاق محادثات السلام الأفغانية في القريب العاجل.

التدوال بشأن المحادثات

لقد تعززت الآمال بعقد المفاوضات في الأسابيع الأخيرة بفعل ثلاثة تطورات مستجدة، فقد عين كرزاي هيئة معروفة باسم مجلس السلام الأعلى، وهو مكلف بإطلاق المفاوضات مع «طالبان» على جميع المستويات، كذلك، يدّعي الرئيس الأفغاني أنه عقد «لقاءات شخصية مع بعض قادة طالبان»، وفي المقابل، صرح قائد القوات الأميركية في أفغانستان، الجنرال ديفيد بتريوس، بأن قوات «الناتو» منحت كبار المتمردين تصريحاً بالمرور كي يتمكنوا من السفر إلى كابول لعقد محادثات مع الحكومة.

لكن سرعان ما أنكرت «طالبان» حصول ذلك، وقد وصف المسؤول عن صياغة التصريحات المكتوبة بأسلوب جيد باللغة الإنكليزية هذه الادعاءات بـ»الأكاذيب المضللة» التي تهدف إلى إظهار أن «المجاهدين في الإمارة الإسلامية كانوا مستعدين لإجراء مفاوضات وأنهم أحرزوا تقدماً في هذا المجال»، ويرى المسؤولون الأفغان والدبلوماسيون الغربيون في كابول من جهتهم أن الآمال الأخيرة بإحراز تقدم مبالغ فيها.

على صعيد آخر، ذُكر أن الإعلان عن إنشاء مجلس السلام تم في شهر يناير، وقد استلزم تشكيله وقتاً أطول بكثير مما أراده حلفاء كرزاي الغربيون، ويشمل أعضاء المجلس، الذين عينهم كرزاي نفسه، عدداً من الأعداء القدامى لحركة «طالبان»، وبالتالي قد ترفض هذه الأخيرة الاجتماع معهم، فمن أصل 70 عضواً، يرتبط 53 منهم بفصائل منخرطة في الحرب الأهلية، و12 منهم عملوا في السابق مع حكومة «طالبان».

وسيكون من الملفت أيضاً أن يضطر كبار المسؤولين في الحكومة، بمن فيهم كرزاي الذي ينتمي إلى قبيلة بشتون، إلى التحدث مع المتمردين.

في هذا السياق، يقول باريالي هلالي، مسؤول في مجلس السلام الأعلى: «إنها سياسة الحكومة الرسمية منذ عام 2002، لقد أدت هذه السياسة إلى إطلاق مبادرات عدة مثل الدعوة إلى عقد محادثات على إفطار في جو إيجابي، في المملكة العربية السعودية خلال شهر رمضان المبارك، عام 2008، لكن لم يتحقق شيء يُذكر نتيجة هذه الخطوة.

في المقابل، يُعتبر الدعم الفاعل الذي يظهره حلف «الناتو» لعقد المحادثات أمراً مستجداً، علماً أن هذه المحادثات ستستلزم، بحسب التقارير، سفر أحد كبار المتمرّدين إلى كابول. وفقاً للمسؤول الأفغاني المخضرم، أحمد رشيد، يُعتبر هذا الموقف «نقطة تحول» في السياسة الأميركية التي كانت ترفض، حتى وقت قريب، أي تواصل مع المتمردين. وأضاف قائلاً: «لاتزال الولايات المتحدة حتى الآن غير مستعدة للتفاوض مباشرةً مع طالبان، وهو ما تريده (طالبان) في المقابل، لكن هذا الموقف يعكس تغيراً قد يتطور أكثر فيما بعد».

تصعب معرفة مدى أهمية هذا الموقف فعلياً، فلم يتضح بعد أي طرف من «طالبان» يعبّر عن هذه الآراء، أو ما إذا كانت تحظى بدعم الملا عمر، القائد الأعلى للجماعة. كذلك، يرى وحيد مُوجدا، محلل سياسي ومسؤول سابق في حكومة «طالبان»، أن شيئاً مثيراً للاهتمام سيحصل قريباً، لكنه لا يعني بذلك انطلاق عملية سلام جدية. كما أنه يشك في أن أحد المحاورين باسم «طالبان» كان مولاي عبد الكبير، عضو في مجلس قيادة الجماعة، وقد أشارت التقارير إلى اعتقاله في باكستان في شهر فبراير، وأضاف قائلاً: «حين يتم اعتقالك، تفقد صلاحية التحدث باسم (طالبان). لقد كانت الحركة مصرّة على موقفها الرافض إجراء أي محادثات مع حكومة هي، برأي الحركة، مجرد دمية في يد الغير، لذا ستتحاور حصراً مع الأميركيين».

يرفض مايكل سامبل من جهته التقارير الأخيرة، وهو دبلوماسي سابق في الاتحاد الأوروبي طُرد من أفغانستان عام 2007 بعد أن عقد محادثات سرية مع المتمردين، وهو يعلِّم الآن في جامعة هارفرد. بحسب رأيه، هذه التقارير هي «في الأساس معلومات حربية»، لكن حتى لو لم تبدأ بعد المرحلة النهائية المبنية على التفاوض في أفغانستان، تتصاعد الرغبة في حصول ذلك، ووفقاً لرشيد، وهو على معرفة قديمة بالرئيس الأفغاني، يتوق كرزاي الآن إلى عقد اتفاق سلام علّها تكون «طريقة للتعويض عن جميع إخفاقاته الأخرى».

بدأ كرزاي يدعو القادة المتمردين بعبارة «الإخوة الأعزاء»، وقد أعلن إطلاق سراح سجناء مهمين تابعين لـ»طالبان»، لكن لم يتضح بعد مدى جديته في تبني هذه المقاربات التي فاجأت الكثيرين، ويبدو أن كرزاي الذي كان المستفيد الأكبر من الغزو الأميركي سيفقد كل ما ستكسبه «طالبان» من أي اتفاق سلام... لكن لم ترد «طالبان» بعد على عرض حسن النية هذا من جانب كرزاي.

عملياً، ثمة عوائق كبيرة تقف في وجه عقد محادثات جدية، فكيف بالأحرى التفاوض لعقد تسوية؟ تعتبر الحكومة وحلفاؤها أن «طالبان» يجب أن تدين الإرهاب الدولي، وأن تقبل بالدستور، وأن تسلم أسلحتها، وفي المقابل، تشدد «طالبان» على ضرورة أن تغادر جميع القوات العسكرية الأجنبية البلاد. لا شكّ في حصول تنازلات في هذا المجال، لكن ربما لن يتمّ ذلك في القريب العاجل. تعليقاً على الموضوع نفسه، يقول المُلا وكيل أحمد متوكل، وزير خارجية سابق في حكومة طالبان يرأس راهناً مجلس السلام الأعلى: «يرتكب الطرفان الخطأ نفسه مع فرض هذه الشروط، ولن يتم التوصل إلى شيء بهذه الطريقة».

في غضون ذلك، تجهد الحكومة وحلفاؤها لفهم عدوها، ويبدو أن ساحة المعركة مألوفة بالنسبة إلى معظم المتمردين، ما يشير إلى أن عدم كفاءة الحكومة أو وجود القوات الأجنبية هما العاملان اللذان يحركان المتمردين، لكن في أغلب الحالات، لا يكون قادة «طالبان» محليين، بل إيديولوجيين بشكل عنيف، وفي هذا الإطار، تتمسك الجماعة بوضوح بقيادة مركزية مرنة، ويُقال إن باكستان لها بعض التأثير عليها، لكن يبقى حجم ذلك التأثير مجرد شائعات، ويقول داود موراديان، مستشار سياسي في وزارة الخارجية: «طالما لا يوجد إجماع على هوية عدونا، يستحيل تقريباً التوصل إلى أي نوع من المصالحة».

من يحاربون؟

صرح المتمردون الأربعة الذين أُجريت المقابلات معهم في كابول بأن أكثر ما يريدونه هو طرد القوات العسكرية الأجنبية وإنشاء حكومة نزيهة بموجب القانون الإسلامي، وفي هذا السياق، يقول أحد القادة المتوسطي الرتبة، من منطقة داند، في محافظة قندهار: «نحن لا نحارب بهدف إعادة المُلا عمر أو من أجل أي فرد معين، نحن نحارب في سبيل إرساء نظام إسلامي، فإذا اعتمدت الحكومة الراهنة قانوناً إسلامياً، سنتوقف عن القتال». تلقى هذا القائد الملتحي، 27 عاماً، تعليمه في المدارس الدينية الإسلامية في قندهار وفي كويتا، وباكستان، وحارب مع «طالبان» مدة أربع سنوات، وما يثير الاهتمام هو تعبيره عن إعجابه بالجيش الأفغاني الذي يتعرض في أغلب الأحيان للسخرية، متوقعاً تراجع زخم «طالبان» مع استمرار نمو الجيش.

يقول الجنرال بتريوس إن قوات «الناتو» وحلفاءها الأفغان بدؤوا يضغطون للتقدم نحو مناطق جديدة بعد سنوات من التراجع، فقد انتشر الأمن أخيراً في مناطق عدة من هلمند وقندهار، كما شهدت البلاد ارتفاعاً ملحوظاً في عدد المداهمات الليلية على يد قوات حليفة خصوصاً ضد قادة «طالبان». في هذا السياق، اعترف المتمردون الذين أُجريت معهم مقابلة في كابول بأنّ هذا الأمر سبب لهم المشاكل، علماً أنهم ادعوا أنهم بارعون في الهروب من أسرّتهم فور سماعهم صوت المروحيات، كما أنهم ادعوا أن استبدال ضحايا «طالبان» أمر سهل، فقال أحدهم: «نحن نستقبل يومياً شباباً متحمسين وأقوياء من المدارس الدينية الإسلامية، فثمة عدد كبير من الأشخاص الذين ينتظرون دورهم للانضمام إلى «طالبان» ومحاربة هؤلاء الأجانب المسيحيين».

من المستحيل معرفة مدى صحة هذه الادعاءات، غير أن معظم المحللين يُبدون تشاؤمهم من الوضع في أفغانستان، حتى لو كانوا معجبين بالتطور الذي أحرزه الجنرال بتريوس. تبدو الحكومة فاسدة لدرجةٍ لا يمكن إصلاحها بأي شكل، ولا تُظهر باكستان أي اهتمام بطرد المقاتلين الأفغان من أرضها، وقد تكون قوتهم في طور النمو أيضاً. فقد أشار تقرير صادر عن المكتب الأمني للمنظمة غير الحكومية الأفغانية إلى زيادة بنسبة 59% في هجمات «طالبان» خلال الربع الثالث من السنة مقارنةً بالفترة عينها من عام 2009، واعتبر أن خطة زيادة عدد الجنود «فشلت في تدمير قدرة [طالبان] على القتال».

قد تؤيد الحكومة وجهة النظر الأخيرة، فقد قال أحد الوزراء في حكومة كرزاي إن المصالحة ستبقى بلا معنى طالما تتابع «طالبان» الفوز، وأضاف قائلاً: «لو كنتُ عنصراً في (طالبان)، فما الذي سيُجبرني على القبول بعرض المصالحة الذي تقترحه الحكومة الأفغانية؟ أدرك أن الحكومة تواجه وضعاً سيئاً، فقد خسرت دعم الشعب الأفغاني ويستعد المجتمع الدولي للانسحاب من المشكلة».