لو خيّرتُ أن أجد عبارة في توصيف السياب لما وجدت سوى العبارة التي قالها سعيد عقل في حق الشاعر التركي ناظم حكمت، على ما أظن، مع تبديل في الاسم لتصبح العبارة: ليس السياب شاعراً (فحسب) انه يد من فوق. ذلك لأن السياب كان على الدوام أشبه بالملاك الحزين، الملاك الذي رأى وتألم وصارع وعانى سوء الفهم واصطفاه المرض حتى لم تتسع له روحه ولا جسده، ثم أعاده ملاك الموت الى جيكوره. وها هي أربعون عاماً تمضي والسياب شعرياً أكثر تألقاً وتعبيراً وطراوة مما مضى.
ان الانقلاب الذي أحدثه السياب في فضاء القصيدة العربية ليبدو كبيراً، بحيث إن صوته المؤسس، اندفع خفياً، مثل ماءٍ جارٍ تحت الارض الى أكثر النماذج الشعرية قوة التي عُرفت منذ الخمسينيات. والشعر العربي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية سيظل مديناً لصوت السياب كما سيظل شعره في ذاكرتنا، حيّاً وعظيماً على الدوام. وكان عباس بيضون على حق عندما وصفه بأنه (مخترع) القصيدة الجديدة. وشعر السياب شعر اختراق على ُُصُعد عدة، شكلاً، وانغراساً أيضاً في أرض التجربة الحية. استوعب السياب، مبكراً الجرح الشخصي فقصائده مثل «النهر والموت» و»غريب على الخليج»و»مدينة المطر» و»أنشودة المطر» وقصائد أخرى، أقرب الى نفسي، يبدو لي انها تخترقُ الزمن.لنترك جانباً الملابسات الأيديولوجية الظرفية عادة التي وَسَمتْ السياب في مرحلة من حياته بسبب قسوة المحيط الاجتماعي والسياسي الذي عاش فيه، هو الذي كان أكثر هشاشة من هواء جيكور، وكان المرض الذي ألم به أكثر مما يطاق حتى أصبحت غربته الروحية أمثولة لذلك الاحساس الطاغي والرهيب بثقل الموت. لذلك يبدو السياب كأنما هو الذي سعى إليه، سعى الى الموت في محاولة أخيرة ليس للتصالح معه فحسب بل باعتباره «منقذا» و»انتصاراً» أيضاً. وعندما كتب في عام 1954 قصيدته الشهيرة كان السياب قد حرك الشعر العربي في العراق والعالم العربي برمته. عندما ألتقيتُ الشاعر سماء عيسى في تلك الأزمان التي تبدو بعيدة الآن، كان السياب هو الحاضر بيننا بقوة. يكفي للمرة، ان يتذكر عوالم القرى العمانية في الليل، بين السواقي، وغابات النخيل، وضوء القناديل البعيد والبيوت الطينية، ليعرف من أي عالم نهض هذا الشاعر. من (أزهارٍ ذابلةٍ) صعدت الروح. كانت تلك بدايات السياب، بدايات الألم ونبرة الاسى القادم من نهر الرومانسية الطبيعية. من هنا أجد على الاقل بالنسبة، لبعض من التجارب الشعرية العمانية نوعاً من المقترب الروحي، مع شعر السياب، وشعر العراقيين عموماً، وأزعم أن اقترابنا من التجربة الشعرية العربية في لبنان ومصر وسورية وفلسطين والمغرب العربي هو اقتراب «ثقافي ومعرفي» على الأغلب، أهي لعبة الجغرافيا والتاريخ؟ وطالما نحن نتحدث عن السياب يكفي أن نستذكر المرويات العمانية الكثيرة عن البصرة. في بغداد عندما كنتُ فتى يافعاً كنتُ على الدوام أقرأ بدر شاكر السياب، وكانت «أنشودة المطر» أشبه باللؤلؤة الثمينة التي وجدتها، حتى حفظتها عن ظهر قلب، وبلغ بي حداً من الخرافة ربما، بحيث ما ان تغيم سماء بغداد، استعداداً للمطر، حتى ارتدي معطفي الواقي وأضع على رأسي قبعة أوروبية مما كنتُ أشاهده في الافلام آنذاك، فكنتُ أخرج الى الشارع وأنا أستظهر القصيدة بصوت عال واحرك يدي في الهواء، فيحسبني بعض المارة أو ممن يطلون من النوافذ، بأنني مجنون أو على الأصح «مخبّل» وفق المفردة العراقية. كنتُ في السادسة عشرة وأسكن في بيت مطل على دجلة، ناحية الرصافة، ومما زاد الطين بلة هو أنني كنتُ واقعاً تحت سحرِ فتاة عراقية - حب الصبا في تلك الايام - فكنتُ أشددُ على مقاطع من القصيدة كما لو كنتُ أخاطبها هي:أتعلمين أي حزن يبعث المطروكيف تنشج المزامير إذا انهمروكيف يشعر الوحيد فيه بالضياعبلا انتهاء، كالدم المراق، كالجياعكالحب، كالأطفال، كالموتى، هو المطر.
توابل
صورة السياب بعد أكثر من أربعين عاما
20-04-2011