ثورة ضد المنطق القديم
لن يكون هناك تغيير حقيقي إلا بثورة الأفكار... الثورة الأهم اليوم هي الثورة الفكرية على المنطق القديم، وهو المنطق الأرسطي الذي يشكل بنيتنا العقلية ويهيمن على طريقة تفكيرنا ومعالجتنا للمشاكل. وقد ذكر عالم الاجتماع د. علي الوردي قبل سنوات طويلة أن المفكرين المسلمين «غروا بهذا المنطق غروراً عظيماً وتطرفوا في تمجيده»، حتى تغلغل هذا المنطق الأرسطي لا شعورياً إلى أعماق العقول، وقد استخدموه في وعظهم ومجادلتهم الخصم. يعترف د.الوردي بفضل الفلسفة القديمة على الفكر البشري، ولكن هذا لا يمنعنا من التطور بأفكارنا. فالأفكار والنظريات في العالم الحديث تخضع جميعها للمساءلة الدائمة والمراجعة والتصحيح، وهذا هو سر حراكها الدائم. أما نحن فلانزال نتعاطى منطق أرسطو القديم في جدالنا ونقاشنا وتحليلنا، وهو منطق لم يعد يصلح لهذا الزمان، فهو بذلك كمن يستخدم سلاحاً قديماً في مواجهة الأسلحة المتطورة الجديدة. وقد انتقد المفكرون ذلك المنطق لاعتماده على «القياس» وهو التدرج من المعلوم إلى المجهول، أي من المقدمات إلى النتائج، وخلله يكمن في أننا نبني نتائجنا على مقدمة محسومة ومعارف مألوفة وموروثة محكومة بالبيئة والأحكام المسبقة.
يعود تاريخ هذا المنطق كما يذكر د.الوردي إلى الزمان الإغريقي القديم حين ظهر السوفسطائيون الذين كانوا يجوبون الشوارع ويتخذون من تعليم فن الجدل والإقناع للعامة مهنة وحرفة، وتمحورت فلسفتهم حول الحقيقة النسبية التي ترى أن «الإنسان مقياس كل شيء» وانشغلت بهموم الناس ومشاكل واقعهم المعاش، لتناقض بذلك الفكر المثالي القابع في برجه العاجي، فشن أفلاطون على السوفسطائيين حرباً «لا هوادة فيها»، حتى أضحت السفسطة إلى يومنا هذا سبة يوصم بها من يتهم بالجدل والكلام المبهم، بينما أخرجت السفسطائية في الواقع الفلسفة من نخبويتها وحررتها من منطق الوعظ المتعالي وأنزلتها من السماء إلى الأرض، أي من الأفكار المجردة المطلقة إلى الواقع، وقد انتصر منطق أرسطو (تلميذ أفلاطون) على السفسطائية فحل الطغيان مكان الحكومة الشبه ديمقراطية في اليونان القديمة... وقد سار المسلمون على نهجهم ولايزالون... إلا أن مفكري عصر النهضة ثاروا على ذلك المنطق القديم الذي يفترض أن ثبات الأشياء من شروط الحقيقة، لا تتغير بتغير الزمن ولا تتبدل بتبدل الظواهر، فسعوا إلى إعادة إحياء المنطق السفسطائي الذي يؤمن بصيرورة الحركة، فقد أثبت علماء الفيزياء أن المادة في حركة مستمرة وأن «ما نرى في ظاهرها من هدوء وجمود إنما هو من وهم حواسنا» حسب د. الوردي. لذا انطلقت العلوم الحديثة من تلك القاعدة لتتطور مختلف الفلسفات كنسبية أينشتاين والفلسفة النفعية وغيرهما. لذلك كان الصراع الحقيقي عبر التاريخ بين هذين المنطقين هو صراع بين الجمود والركود والحركة الدؤوب والتطور المستمر. يرى د. الوردي أن ذلك التنازع الفكري والاجتماعي أمر ضروري لتطور المجتمعات. فيشبه هذا التنازع بـ»القدمين اللتين يمشي بهما المجتمع إلى الأمام، قدم تثبت المجتمع وأخرى تدفعه... والسير لا يتم إلا إذا تفاعلت فيه قوى السكون والحركة معاً»، فالاختلاف هو الذي يحرك المجتمعات الحديثة، أما المجتمعات البدائية التي تعلي من شأن الاتفاق وتحقر من الاختلاف فيشببها د. الوردي بـ»الذي يربط إحدى قدميه إلى الأخرى فلا يقدر على السير». الاختلاف الذي يقود إلى الحركة برأي د. الوردي هو اختلاف المبادئ لا الخلاف المذهبي العقائدي في المجتمعات البدائية، ذلك أن طرفي الخلاف يجاهدان لتثبيت قدم التقاليد والمنطق القديم بينما قدم التغيير فيه مكبلة. يقول د.الوردي «إن القضاء على إحدى الوجهتين والإبقاء على الوجهة الأخرى تصول وتجول وتحتكر المدارس العلمية لها وحدها، فذلك أمر يدفع بالعقول نحو التحذلق والصعود فوق السحاب، من غير أن تنزل قليلاً إلى هذه الأرض التي نعيش عليها ونعاني من مشكلاتها ما نعاني».ذلك هو مستنقع الوحل الآسن الذي يشل أرجلنا من التحرك إلى الأمام نحو الثورة الحقيقية.