تجوال تشكيلي
عرضان واسعان للفن التشكيلي في لندن سعيت إليهما، وثالث أكثر دسامة تركته لوليمة الأسبوع القادم. الوليمة الدسمة هي معرض استعادي للفرنسي غوغان (ما أثقل ترجمة الاسم دون استعمال الكاف الفارسية!)، والمعرضان الآخران موسوعتان فنيتان من بودابست، ومن فينيسيا.
لو أُتيح لي أن أزور بودابست لانصرفت في اليوم الأول إلى زيارة متحفها الوطني للفنون الجميلة. ولعلي أعاود الزيارة في اليوم التالي. لأني عبر الفن، حين تستعصي القراءة اللغوية، أستطيع أن أقرأ نشاط المدينة الروحي عبر التاريخ. وتاريخ مدينة كبودابست ينتسب في فاعليته إلى القرون التي سبقت القرن العشرين، قرن آفة شيوع السلطات الشمولية. فلها، شأن إيطاليا، عصر نهضتها الذي بدأ في منتصف القرن الخامس عشر، ثم أطلت مرحلتها الذهبية الثانية في نهاية القرن التاسع عشر، حتى الحرب العالمية الثانية.المعرض الحالي وفر عليّ هذه المهمة، ونقل أهم ما يتوفر في متحف الفنون في بودابست من أعمال فنية، من دافنشي، عبر ألغريكو، غويا، حتى إيغون شيل. حدث فني اعتادته لندن، في سابقات لها مع متاحف روسيا، الدنمارك، أميركا.القاعات الكبرى للمعرض تذكرك بأن حضارة أوروبا واحدة؛ لأنها تؤرخ للمراحل التي قطعها الفن التشكيلي: من الغرق في عتمة المناخ الكنسي، واستعادة حكاية الصلب، واستيحاء قصص الكتاب المقدس، إلى تطلع فن عصر النهضة إلى المجد اليوناني، ومحاولة استيحاء أساطيره. ثم نزولاً إلى رحابة الحياة الواقعية التي بشر بها العصر الحديث، حتى تيارات الحداثة، التي لم يعد يشغلها الموضوع الأدبي وراء اللوحة، وانشغلت «بكيفية» الرسم، عبر الانطباعية والتعبيرية، والتجريد.لا أنكر أني، بعد أن تجاوزت جلال المراحل المبكرة، والوسطى، وما تلاها حتى القرن التاسع عشر، كنت كمن تجاوز قبواً تحت أرضي، ينعم برائحة المجد السماوي، حيث لا فاصل بين الكائن والمدار الكوني. حين رأيت لوحة التعبيري شيل من بعيد، حُملت بعنف من الرحيل الخارجي إلى أقبية المأزق الداخلي نصف المضاءة، التي أقحمتنا فيها الحياة الحديثة. في الغاليري الوطني معرض آخر لا يقل حجماً عن الأول، ولكنه أكثر إدهاشاً، وأقل عمقاً بالضرورة. معرض يقتصر على اللوحات البانورامية، التي وُضعت للمدينة فينيسيا، في أوج عزها الحضاري، والسياحي، في القرن الثامن عشر. ولعل اللوحات المدهشة التي تلاحق مشاهد المدينة المائية، والمعمارية، والحياتية، لم تكن في النهاية إلا استجابة من فنانين ماهرين لرغائب السائحين الأجانب. والإنكليز منهم خاصة.المعرض بعنوان «كاناليتّو ومنافسوه». وكاناليتو هذا (1697-1768) أبرز رسام بانورامي لمشاهد فينيسيا الباهرة. وعبر علاقته بفنانين آخرين (غواللو، فانفيتيللي، بيللوتو وآخرين...) اجتهدوا في رؤية المشهد الفينيسي على امتداد ستين عاماً، من1700-1760، ندخل دراما التنافس في المهارة الفنية. نتأمل «ثيمةً» بصريةً، ونتابع «تطويراً» لها من ثانٍ، ومن ثالث نقع على «تنويعات» عليها. هذا إذا استسغنا التسميات الموسيقية.لم يُصبح كاناليتو على الشهرة التي هو عليها اليوم إلا بعد لقائه بتاجر اللوحات الإنكليزي كونسال سميث عام 1730، الذي ألزمه، إذا أراد بيع لوحته، أن ينقاد إلى ذائقة السائح الإنكليزي، الذي يفضل اللوحة المشهدية، التي تشبه اليوم مشهدية صورة البطاقة البريدية. حتى الحجم صار يُفصّل أحياناً على مقاس حقيبة السفر آنذاك. ولكن لوحة كاناليتو لم تفقد، تحت هذه الطلبات، سمتها الفنية المرهفة.اللوحة هنا قد تشجع على النظر إليها كوثيقة تاريخية خالصة، لا تخلف الأثر الذي تخلفه اللوحة الفنية عادة. ولكن هذه الوثيقة تؤرخ لمرحلة معمارية فينيسية قلَّ مثيلها. فالمَشاهد لا تفلت من قلعة، كنيسة، سلسلة نوافذ، وأبواب، وشرفات في غاية التوازن الإيقاعي، والهارموني. ولو كانت للوحة مهمةٌ وحيدة كهذه لكفاها قيمة. فكيف إذا ما كانت تنطوي على تفاصيل، تبدو أحياناً لامتناهية، من البشر، والحيوان، والزوارق، والأزياء، في حياة لا تكف عن الحركة.إن مشاهدة لوحة فنية بانورامية قد لا تستدعي التأمل الفني الخالص، بل توزعه على امتداد تأمل سياحي لا يخلو من متعة، وفائدة.