الله يشهد أنني والتفاؤل كهاتين، الوسطى والسبابة، «إخوان دنيا»، نشأنا معاً، التحقنا بالمدرسة معاً، أدخلنا السجائر إلى الفصل معاً، شدّنا مدرس الجغرافيا من ياقات قمصاننا معاً، تصعلكنا وتلكّعنا معاً، غازلنا الصبايا وناغشناهن معاً، قرأنا رسائلهن وكتبنا إليهن معاً، تشكلت ثقافاتنا معاً، قرأنا أن كبار أثرياء العالم أثناء اجتماعاتهم يتسلّون بتناول الكستناء المشوية في الشتاء، فأشفقنا عليهم وتهامسنا ضاحكين: «مساكين، لم يتذوقوا المرقوقة (1) في الشتاء»، كبرنا ودرسنا في مصر معاً، ودخلنا السجن العسكري في قاهرة المعز كطلبة في الكلية العسكرية مع بداية الغزو العراقي، بتهمة تهديد حياة الطلبة العراقيين، وكدنا نضيع في الرِّجلين معاً، نقلنا معاً «دانات المدافع» أثناء فترة السجن من موقع إلى آخر سيراً على الأقدام عقاباً لنا، وتساقطنا منهكين غير عابئين بصرخات ضباط السجن وتهديداتهم، وكنا نضحك بكل بلاهة التعب... كنا نضحك بصدق، كنا نعاني تخمة في القهقهة، وكلما ارتفع منسوب الكوارث على رؤوسنا ارتفعت معه قهقهاتنا المخلوطة باستهتار. لم تفرقنا مشاغل الحياة، التفاؤل وأنا، كنا نلصق الكتف بالكتف كي لا يتسلل أحد بيننا. تعاهدنا على البقاء على قيد الصداقة.

وجاءت السنوات الخمس الأخيرة، لا حيّاها الله ولا بيّاها، و»سرى بي الجاثوم»(2) وقادني إلى مدينة السياسة، فاستيقظت فإذا بي بين تيارات سياسية كاسدة وتيارات مائية «فاسدة»، لعنة الله على السياسة في هذا الشهر المبارك، وعلى كاتبها وناقلها وبائعها وشاريها. تلفّتّ أبحث عن صديقي التفاؤل فلم أجده، اختفى في بحور الزحام، تباعدَت أكتافنا بعد التصاقها، صرخت بأعلى حنجرتي أناديه بهلع، فطغت أصوات الضجيج على صوتي. تفرقنا، واختفى صديقي «التفاؤل».

Ad

رحت أبحث عنه وأمشي وأنا أرفع طرف دشداشتي عن الوحل وأسأل الجموع: «ما كل هذه المياه الآسنة؟»، فبشروني: «هطلت أمطار الطائفية علينا بغزارة أمس»، فغمغمتُ: «اللهم حوالينا لا علينا»، وواصلت مسيري، وأعياني التعب، فتركت دشداشتي «على راحتها» تغوص في الطين، وجلست منهكاً على الرصيف، كل شيء فيَّ كان منهكاً، حتى دموعي لم تقوَ على الهطول فأقعت في مكانها، الغصة وحدها كانت في أوج نشاطها... وفجأة رأيته!

كان يجر أقدامه حافياً، يمشي متثاقلاً... جريت إليه واحتضنته معاتباً: «أين اختفيت سحقاً لك ولعشيرتك الأقربين؟ ما كل هذا اليأس والبؤس على وجهك؟ ما هذه اللحية العابثة بلا تهذيب والشعر المنكوش بلا ترتيب؟ هل غرقت مراكبك؟»، فأجابني وهو يمسح شعر رأسه: «هرمنا يا صديقي... هرمنا». «يااااه يا «أبو فولة» (3)، من كان يصدق أنك ستنكسر؟ ما الذي كسر عظمك؟» سألته فتمتم وهو ينظر إلى لا شيء: «الطائفية... الطائفية يا صديقي تفرق بين المرء وزوجه، والخليل وخليله» وواصل حديثه وهو ينتزع كلماته من بين تنهيداته: «ثمة معركة اسمها معركة الجمل، حدثت قبل نحو أربعة عشر قرناً، يعاد الآن التحقيق فيها»، سألته: «وماذا عن اللحوم الفاسدة التي أغرقت البلد؟»، فشوّح بيده: «كل شيء متوقف الآن إلى أن تنتهي لجنة تحقيق الجمل». قلت: «وماذا عن التشكيل الوزاري ومصالح البلاد والعباد؟»، قال: «مرتبط بنتيجة التحقيق التي لن تظهر، يجب أن يتقاسمها الطرفان»، وأضاف: «على كل حال، ستتشكل الوزارة من العطشى الباحثين عن عصير الفراولة، وسينضب مخزون الفراولة في البلاد، وسيُطبق على هذا البلد جَبَلان من الشرق والغرب، للمساهمة في لجنة التحقيق»! «طيب، والحل؟»، أجاب وهو يرفع شعرات لحيته إلى شفاهه: «أغلق نوافذك واحتضن أطفالك»... قال ذلك وابتعَد.

رحت أجري خلفه وأشده من كتفه: «لحظة لحظة، لم تخبرني... هل وجدوا شهود عيان لمعركة الجمل؟ هل وجدوا بصمات المجرمين وطابقوها؟ هل عاينوا مسرح الجريمة؟ هل...»، فتمتم: «متى ما وصلوا إلى نتيجة فستتوقف نبضات قلوبهم... لذا لن يصلوا أبداً... كل شيء سيتوقف إلى أن...»، واختفى واختفيت.

* * *

 (1) المرقوقة: أكلة خليجية تعمل عمل الأسمنت المسلح في المعدة. تأكلها فتفقد الذاكرة وتشخر قبل أن تنام بنصف ساعة.

(2) سرى بي الجاثوم: لا أعرف ترجمتها. تصرفوا.

(3) أبو فولة: اسم الدلع لصديقي التفاؤل.