إغلاق أميركا

نشر في 13-08-2010
آخر تحديث 13-08-2010 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت لقد أصبحت الولايات المتحدة الآن حبيسة المناقشة المحتدمة بشأن الهجرة، وأخيراً استنت ولاية أريزونا تشريعاً يشجع قوات الشرطة المحلية على التحقق من حالة الهجرة بالنسبة للأشخاص الذين يتم استيقافهم لأسباب أخرى- ومطالبة المهاجرين بإثبات وضعهم القانوني عند الطلب.

وانتقدت إدارة أوباما هذا القانون، واحتجت الجماعات الكنسية عليه باعتباره أداة للتمييز، وأصدرت المحكمة الفيدرالية أمراً قضائياً يفيد بأن الهجرة تُعَد قضية فيدرالية. وبصرف النظر عن نتيجة القضية القانونية، فقد تبين أن قانون أريزونا يحظى بالشعبية في ولايات أخرى، ويجسد الأهمية المتزايدة للهجرة باعتبارها قضية سياسية.

ولكن إذا انغلقت الولايات المتحدة على نفسها وعمدت بشكل جاد إلى الحد من الهجرة، فإن موقف أميركا في العالم سيتعرض لعواقب وخيمة. إن أميركا بمستويات الهجرة الحالية تُعَد واحدة من الدول المتقدمة القليلة التي قد تنجح في تجنب التدهور الديموغرافي والاحتفاظ بحصتها من سكان العالم في المستقبل، ولكن هذا قد يتغير إذا أدت ردود الفعل إزاء الأحداث الإرهابية أو الكراهية العامة للأجانب إلى إغلاق الحدود.

إن المخاوف بشأن تأثير الهجرة على القيم الوطنية وعلى الحس المتماسك بالهوية الأميركية كانت قائمة منذ السنوات المبكرة لتأسيس الولايات المتحدة. ففي القرن التاسع عشر كان حزب "لا تعرف شيئاً" مبنياً على معارضة الهجرة، خصوصاً من أيرلندا. وكان الآسيويون مستبعدين بداية من عام 1882، ثم بعد صدور قانون تقييد الهجرة في عام 1924 تباطأ تدفق المهاجرين إلى الولايات المتحدة لأربعة عقود من الزمان.

وأثناء القرن العشرين سجلت أميركا أعلى نسبة من المقيمين المولودين في الخارج في عام 1910 والتي بلغت 14.7% من إجمالي السكان. واليوم تبلغ نسبة المولودين في الخارج من سكان الولايات المتحدة 11.7%.

ورغم أن الولايات المتحدة أمة مؤلفة من مهاجرين، فإن المزيد من الأميركيين أصبحوا الآن أكثر تشككاً في الهجرة من تعاطفهم معها. واستناداً إلى استطلاعات الرأي فإن أغلب الأميركيين يريدون عدداً أقل من المهاجرين. ولقد أدى الركود إلى تفاقم وجهات النظر هذه، ففي عام 2009 أصبح 50% من الأميركيين يفضلون الحد من الهجرة القانونية، بعد أن كانت نسبتهم 39% في عام 2008.

والواقع أن الأرقام والأصول التي ينتمي إليها المهاجرون الجدد كانت من الأسباب التي أثارت المخاوف حول تأثير المهاجرين على الثقافة الأميركية. وتظهر بيانات تعداد السكان في الولايات المتحدة لعام 2000 ارتفاعاً هائلاً في نسبة السكان من "الهيسبانيك" – اللاتينيون من ذوي الأصول الإسبانية- وكان ذلك راجعاً بشكل أساسي إلى موجات من المهاجرين القانونيين وغير القانونيين الجدد. حتى أن علماء الديموغرافيا توقعوا أن يشكل عدد السكان من غير المنتمين إلى "الهيسبانيك" أغلبية ضئيلة من سكان الولايات المتحدة بحلول عام 2050. حيث سيشكل الأميركيون من ذوي الأصول الإسبانية 25%، والأميركيون من أصول إفريقية 14%، والأميركيون من أصول آسيوية 8% من سكان الولايات المتحدة.

وتشير أغلب الأدلة إلى أن أحدث الموجات من المهاجرين لا تقل عن الموجات التي سبقتها سرعة في التكيف. ذلك أن الحاجة إلى التواصل بشكل فعّال، إلى جانب قوى السوق، تعمل على دفع المهاجرين دفعاً إلى إتقان اللغة الإنجليزية وتقبل درجة من الذوبان في المجتمع الجديد. ويستعين المهاجرون الجدد بوسائل الإعلام الحديثة أيضاً في الإلمام بالمزيد عن بلدهم الجديد، وهي الميزة التي لم يتمتع بها من سبقوهم من المهاجرين قبل قرن من الزمان.

ورغم أن معدل الهجرة الأسرع مما ينبغي قد يتسبب في إثارة بعض المشاكل الاجتماعية، فإن المؤيدين يرون أن المهاجرين يعملون في الأمد البعيد على تعزيز قوة الولايات المتحدة. والواقع أن 83 بلداً ومنطقة في العالم، بما في ذلك أعظم البلدان تقدماً، تعاني حالياً من تراجع معدلات الخصوبة إلى ما هو أدنى من المستوى اللازم للحفاظ على مستوى ثابت من السكان. فلكي تحافظ اليابان، على سبيل المثال، على حجم سكانها الحالي فإن هذا يعني التزامها بقبول 350 ألف مهاجر جديد سنوياً طيلة الخمسين عاماً المقبلة، وهو أمر بالغ الصعوبة في ظل الثقافة اليابانية التي كانت معادية تاريخياً للهجرة.

في المقابل، وعلى الرغم من تناقض المشاعر الأميركية، فإن الولايات المتحدة تظل دولة قائمة على الهجرة. وتتوقع هيئة الإحصاء الأميركية أن ينمو تعداد سكان الولايات المتحدة بنسبة 49% على مدى العقود الأربعة المقبلة.

واليوم تحتل الولايات المتحدة المرتبة الثالثة بين أكثر بلدان العالم سكانا؛ ومن المتوقع بعد مرور خمسين عاماً من الآن أن تظل محتفظة بالمرتبة الثالثة (بعد الصين والهند). والواقع أن الهجرة لا ترتبط بالقوة الاقتصادية فحسب، بل ونظراً للشيخوخة السكانية التي تعانيها أغلب البلدان المتقدمة والأعباء المترتبة على تلبية احتياجات الأجيال المتقدمة في السن، فإن الهجرة قد تساعد في التخفيف من حدة المشاكل المرتبطة بالسياسات.

فضلاً عن ذلك، ورغم أن الدراسات تشير إلى أن الفوائد الاقتصادية التي يمكن قياسها مباشرة على المستوى الوطني قد تكون بسيطة نسبياً، وأن العمال غير المهرة قد يعانون بشدة المنافسة، فإن المهاجرين المهرة من الممكن أن يشكلوا أهمية واضحة في قطاعات اقتصادية بعينها. فزيادة مقدارها 1% في عدد خريجي الجامعات من المهاجرين تعني زيادة مقدارها 6% في نصيب الفرد من براءات الاختراع. وفي عام 1998 كان المهندسون الأميركيون المولودون في الصين والهند يديرون ربع الأعمال التجارية العالية التقنية في وادي السليكون، والتي بلغت مبيعاتها 17.8 مليار دولار، وفي عام 2005 كان المهاجرون المولودون في الخارج قد ساعدوا في بدء واحد من كل أربعة من المشاريع التكنولوجية الناشئة على مدى العقد السابق.

ولا تقل عن ذلك أهمية الفوائد العديدة التي تضيف بها الهجرة إلى قوة أميركا الناعمة. والواقع أن رغبة الناس في القدوم إلى الولايات المتحدة، إلى جانب ميل المهاجرين إلى الترقي على السلم المجتمعي، من الأسباب التي تعمل على تعزيز الجاذبية التي تتمتع بها أميركا، بل إن العديد من الناس يستطيعون أن يتصوروا أنفسهم مواطنين أميركيين، لأن العديد من الأميركيين الناجحين يشبهون الناس في بلدان أخرى.

فضلاً عن ذلك فإن الصلات القوية بين المهاجرين وأسرهم وأصدقائهم في ديارهم الأصلية تساعد في نقل معلومات دقيقة وإيجابية عن الولايات المتحدة. وبالإضافة إلى هذا فإن وجود ثقافات متعددة في بيئة واحدة يعمل على خلق سبل التواصل مع بلدان أخرى، ويساعد في توسيع آفاق المواقف الأميركية في عصر العولمة. والواقع أن الهجرة تضيف إلى القوتين الخشنة والناعمة ولا تنتقص منهما.

كان أحد كبار رجال الدولة من آسيا، وهو مراقب شديد الدقة لكل من الولايات المتحدة والصين، قد استنتج أن الصين لن تتفوق على الولايات المتحدة باعتبارها القوة الرائدة على مستوى العالم في القرن الحادي والعشرين، وأرجع ذلك إلى قدرة أميركا على جذب المهاجرين الأفضل والأكثر تألقاً من بقية بلدان العالم ودمجهم في ثقافة متنوعة من الخلق والإبداع. وربما تتمتع الصين بعدد أكبر من السكان الذين تستطيع الاستفادة من إبداعهم في الداخل، ولكن في اعتقاده أن الثقافة الصينية التي تتمحور حول الصين من شأنها أن تجعلها أقل جاذبية من الولايات المتحدة.

ورغم أن المرء قد يتفهم مقاومة المواطنين الأميركيين العاديين للمنافسة من جانب المهاجرين الأجانب أثناء فترة تتسم بارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات غير عادية، فسيكون من عجيب المفارقات أن تقودنا المناقشة الحالية إلى تبني سياسات تعمل على حرمان الولايات المتحدة من واحد من المصادر الفريدة التي تستقي منها قوتها.

* جوزيف س. ناي | Joseph Samuel Nye ، مساعد وزير الدفاع الأميركي سابقاً، وأستاذ بجامعة هارفارد.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top