ثمة الكثير مما يمكن أن يقوله نقاد الحكومة المصرية عن تردي أدائها الداخلي وتفاقم مشكلاتها، أو عن تراجع دور البلاد الإقليمي وتضاؤل قواها الدافعة، سواء كانت صلبة أو ناعمة، لكن هؤلاء سيجدون صعوبة، بلا شك، إذا حاولوا الانتقاص من قدرة هذه الحكومة على إدارة العلاقات الخارجية وتجييرها لمصلحة البقاء والاستقرار والاستمرار.
تنطلق اليوم انتخابات برلمانية مصرية شديدة الأهمية في التاريخ السياسي المعاصر للبلاد؛ ليس فقط لأنها تجيء على رأس خمس سنوات شهدت زخماً سياسياً نادراً عززته حركات احتجاجية تكاثرت كالفطر، ولا لأنها ستعيد تشكيل برلمان خُمس أعضائه من جماعة "الإخوان المسلمين"، ولكن أيضاً لأنها ستمهد للاستحقاق المفصلي الأهم، المتمثل في انتخابات الرئاسة المنتظرة، في سبتمبر من العام المقبل.لم يكن هناك شك في أن الحكومة في موقف لا تحسد عليه؛ فالضغوط الاقتصادية، وغلاء الأسعار، وتفاقم التضخم والبطالة وتفشي الفساد، كلها عوامل تحد من قدرتها على إقناع الناخبين بالتصويت لأعضاء الحزب الحاكم، فضلاً عن الاحتقان السياسي والتوتر الطائفي وشوكة "الإخوان" والضغوط الخارجية.لم تكن الحكومة المصرية تتوقع ضغوطاً شبيهة بتلك التي استهدفتها عشية انتخابات 2005 البرلمانية والرئاسية؛ إذ كانت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش ووزيرة خارجيته كوندليزا رايس أكثر اقتناعاً بفكرة الضغط على دول الشرق الأوسط الرئيسة ودفعها بقوة نحو تحقيق إصلاحات ديمقراطية.ومع ذلك، فقد صدرت تصريحات وأفعال مقلقة عن إدارة الرئيس أوباما؛ بعضها على لسان الناطق باسم وزارة الخارجية، الذي طالب الحكومة المصرية بإجراء انتخابات نزيهة والسماح بتغطية إعلامية منفتحة والقبول برقابة منظمات دولية، كما جرت لقاءات وعقدت ندوات من قبل ما يسمى "مجموعة عمل مصر"، وهي آلية سياسية استهدفت بلورة ضغوط مباشرة على القاهرة بهدف حملها على اتخاذ مواقف تؤمن فرصاً أفضل للمرشحين والأحزاب المنافسة للحزب الحاكم.ورغم الانتعاش الواضح في العلاقات المصرية- الأميركية منذ تولي أوباما منصبه، وهو الانتعاش التي شهد ذروته عندما زار القاهرة، ووجه منها خطاباً إلى العالم الإسلامي بأسره، فقد ردت الدبلوماسية المصرية رداً خشناً على مطالبات واشنطن، واصفة إياها بـ"التطفل السياسي"، ورافضة رفضاً باتاً أي تدخل من الخارج في الشأن المصري، في ما تكفلت أقلام مقربة من الحكم بتوجيه إهانات لواشنطن في صورة مقالات اتخذت عناوين من نوع "الشيطان يعظ". لم تكد تمر أيام قليلة على هذه الرسائل الحادة من القاهرة، حتى قام الرئيس مبارك بجولة خليجية شملت الإمارات وقطر والبحرين، حيث حض خلالها الفلسطينيين على مواصلة التفاوض، لأن "توقف المفاوضات سيزيد الاستيطان ولن تبقى أرض للفلسطينيين بعد ذلك لإنشاء دولتهم".جولة مبارك أيضاً مثلت تحولاً رئيساً في مسار علاقات بلاده بقطر، وهي العلاقات التي شهدت توترات واستهدافاً متبادلاً على مدى عقد ونصف العقد، ظهر في الدبلوماسية أحياناً، وفي قناة "الجزيرة" غالباً، ويبدو أن البلدين اتفقا على "صفحة جديدة" في تلك العلاقات خلال تلك الزيارة.وقبل أن يغادر مبارك الدوحة متوجهاً إلى المنامة، كان وزير خارجيته أحمد أبو الغيط يدلي بحوار مهم لصحيفة قطرية، ومما جاء في هذا الحوار هجوم حاد على إيران لا يتناسب مع خطوات التقارب الأخيرة التي طرأت على العلاقات بين البلدين على صعد التعاون الاقتصادي والتجاري.ومما قاله الوزير أبو الغيط في هذا الصدد: "نقول لإخوتنا في إيران يجب أن يتوقفوا... أمن دول الخليج يأتي أولاً، ومصر تعطيه أكبر قدر من اهتمامها. يجب أن يُترك العراق في حاله، وأن يُترك لبنان لحاله، ويجب ألا تتعرض إيران للبحرين بأي شكل من الأشكال. لا يجب السماح بالتدخلات الإيرانية في الشأن الداخلي لدول الخليج. ونرفض استخدام طهران للبلاد العربية ككروت وأوراق لعب في تنافسها مع القوى الغربية".لم تكن تلك آخر رسائل القاهرة للعالم الخارجي عشية الانتخابات المهمة؛ فقبل 48 ساعة من توجه الناخبين إلى صناديق الاقتراع، اختار رئيس البرلمان المنتهية ولايته، والقيادي اللامع في الحزب الحاكم، ومرشحه في إحدى أهم دوائر العاصمة الدكتور فتحي سرور، اختار وكالة الأنباء الفرنسية (أ ف ب)، ليدلي لها بتصريح نادر.قال سرور في تصريحه: "الضغوط الأميركية من أجل الإصلاح قد تقود إلى دولة دينية... أي ضغط أميركي يمكن أن يؤدي إلى التحول من نظام يفصل بين الدين والدولة إلى دولة دينية".اتخذت الحكومة المصرية سلسلة من الإجراءات التي اعتبرت تحجيماً واضحاً للقوى السياسية المنافسة للحزب الحاكم، ويحفل الإعلام الإقليمي والعالمي كل يوم بأخبار عن قمع مؤيدي مرشحي "الإخوان المسلمين" وحبس بعضهم، وعدم قبول ترشح بعض المعارضين، وعدم تنفيذ أحكام قضائية بوقف الانتخابات في عدد من الدوائر، وارتفاع حدة العنف المصاحب لأنشطة الدعاية الانتخابية. كما كانت الإجراءات الحكومية المنظمة للتغطية الإعلامية محل طعن وانتقاد كبيرين، بوصفها محاولة لـ"تطويع الإعلام"، في ظل تقلص الإشراف القضائي، ورفض الرقابة الدولية، والضغوط على مؤسسات المجتمع المدني المحلية الراغبة في مراقبة الانتخابات.لكن القاهرة وجهت رسائل بالغة الأهمية إلى الخارج؛ أولها تؤكد أن ترتيب أوضاعها الداخلية "خط أحمر لا تريد لأحد أن يقترب منه"، وثانيتها تشير إلى دورها في دفع عملية السلام، وضمان استمرار "شغل مسرح المنطقة" بمفاوضات تسوية، يمكن أن تسكن الأوضاع، وتحد من "الإرهاب"، وثالثتها توضح دورها في "موازنة التهديد الإيراني، ودعم دول الخليج في مواجهة طموحات طهران التوسعية".على أن تلك الرسائل، رغم ما تنطوي عليه من أهمية بالغة، لم تكن مقنعة بما يكفي لكي تتراجع الولايات المتحدة، والغرب عموماً، عن فكرة الضغط على الحكومة المصرية من أجل السماح بإقامة انتخابات أكثر نزاهة، بشكل يؤدي إلى قدر أكبر من عدالة التمثيل السياسي المترتب عليها، ويقود لقدر أكبر من الحداثة في إدارة الحكم وتداوله. ولذلك، فإن الانتخابات لم تبدأ قبل توجيه الرسالة الرابعة، ومفادها أن: "انفتاح الانتخابات وشفافيتها ونزاهتها سيزيد فرص (الإخوان) في الوصول إلى الحكم، وانتخابات 2005 خير دليل على ذلك".أمامنا وقت قليل جداً لنعرف إلى أي مدى كانت رسائل القاهرة إلى الخارج عشية الانتخابات نافذة ومؤثرة، وهي انتخابات يعرف أغلب المصريين نتائجها بدقة قبل شهور من بدء الاقتراع.* كاتب مصري
مقالات
رسائل مصرية عشية اللعبة الانتخابية
28-11-2010