«The Wrestler» (المصارع) فيلم من إخراج المتميز في إخراجه والمتفرد في فنه Darren Aronofsky.

Ad

هذا الفيلم يحكي حكاية كل إنسان تأخذه الغواية إلى الحد الأقصى الذي يقود إلى الهاوية، وكل إنسان معرض لسحر الغواية... الفيلم يحكي عن مباريات المصارعة التي تقام بهدف الاستعراض الترفيهي، وتقوم برعايته شركات تتولى إدارة هذا القتال الذي ربما يعتبر ثالث مهنة خطرة في العالم، وهذه الشركات تختلف عن تلك الشركات الكبرى التي ترعى المباريات الرسمية وتنتقي المتبارين ضمن شروط معينة.

ويلعب الممثل Mickey Rourke دور البطل الذي أغوته المصارعة وأخذته إلى أقصى حد حتى فصلته عن كل أهداف الحياة وارتباطاتها الأخرى، فلم يعد يهتم بكل من حوله حتى بابنته التي لم يتذكرها إلا عندما أصيب قلبه بسكتة قلبية أنذره طبيبه على أثرها باعتزال هذه المهنة الخطرة، حينئذ اكتشف فراغ حياته الهائل الساكن في وحدته، فلا علاقات حقيقية ولا ارتباطات دافئة، ولا حضن حنون.

حينئذ بحث عن ابنته تلك التي تخلى عنها ولم يتذكرها في أي عيد ميلاد لها، انتظرته بكل آمال الطفولة، أن يأتيها كحلم يتحقق، ولم يأتها حتى كبرت على ألم الافتقاد ومرارة الهجران لأب لم يسأل ولم يأت أبداً.

ومع محاولته للتقرب إليها، ومن عطشها إلى حبه، تمنحه بداية جديدة للتقرب والمصالحة، ويعطيها موعداً للغداء معاً، ولكنه ينسى موعد عمره في سكرة معربدة مع عاهرة التقطها من الطريق، وتضيع من يده تلك الفرصة الثمينة لعودة الحب فيما بينهما.

من شدة ألمها أغلقت الباب بوجهه إلى الأبد، ومن عنف يأسه وقنوطه، ومن عالم لا يعرفه وليس له فيه موضع قدم، تقوده قدماه إلى عالمه الدامي عالم المصارعة المميت وكأنه قرر الموت أو الانتحار في عالم يعرفه وينتمي إليه.

وعلى أعلى ارتفاع يقف عليه، وعلى أعلى أصوات لهتاف المتفرجين وتصفيقهم يهوي بالضربة القاضية.

ويتصاعد تهليل الحضور وتصفيقهم ليصم المشهد، ويعم السواد الشاشة.. وينتهي الفيلم.

الفيلم قمة في التمثيل والإخراج وتسليط الضوء على تلك النقطة التي لا رجوع من بعدها، فبطل الفيلم إنسان انساق وراء حبه وتعلقه الشديد بعالم المصارعة الاستعراضي، ولم يبق لنفسه فرجة ليتواصل فيها مع العالم خارج حلبة المصارعة التي يهواها، وحين لفظته الحلبة من بعد امتصاص زهرة شبابه، لم يجد ما ينتمي إليه، وهذا ما قاله لفتاة التعري حين جاءت لتثنيه عن المباراة التي تحمل نهايته، قال: «لم أجد لي مكاناً في عالم لا يريدني، وهذا الجمهور هو عالمي الوحيد الذي أنتمي إليه».

المهم في تسليط الضوء على هذه البؤرة، هو الإنارة على شيطان هذه الغواية التي تستولي وتستحوذ على الإرادة الإنسانية بشكل مطلق، ولا تترك له أي خيار في الانفلات من قبضتها، وهذا ينطبق على كل الغوايات من فنية، وأدبية، ورياضية، وموسيقية، وغنائية، وغيرها.

صحيح أن التفرغ والانغمار التام فيها يقطف ألق مجدها وذروة شهرتها، ولكنها في الوقت ذاته تحرم مبدعها من دفء الروابط الإنسانية، ومن خلق مجتمع خاص به، ومن محبة تقيه صقيع الوحدة وألم الغربة في عالم لا ينتمي إليه.

وفي رأيي أنه يجب خلق توازن بين ما يفتننا ويغوينا مثل الفن أو الأدب أو الرياضة، وبين الانتماء إلى شجرة الحياة المتمثلة في تأسيس الروابط الأسرية والاجتماعية التي تمثل السد الواقي ضد العثرات، وضد أفول الغواية، أو انهزام الجسد.