هناك أحداث تمرّ على المرأة فتحيل حياتها إلى دائرة ضيقة من الخوف والألم واليأس. هذه الأحداث قادرة على أن تُفقد لحظة الزمن مذاقها الحلو وطعمها المستساغ، مُسقِطة الأقنعة عن وجوه كثيرة تحيط بتلك المرأة. وربما كانت عملية الإجهاض كابوسا مرعبا، يبقى يلاحق أي فتاة أو امرأة، تجبرها الظروف على المرور بهذه التجربة الصعبة، إن لم ينحدر بها حظها العثر إلى مهاوي الموت.

Ad

الكاتبة الفرنسية (آني آرنو- Annie Ernaux) المولودة في لبنان في الأول من سبتمبر عام 1940، تُعدّ اليوم واحدة من أهم الكاتبات على الساحة الفرنسية والعالمية، من خلال ترجمة رواياتها إلى معظم اللغات العالمية. ولقد تبوأت مكانة لافتة كونها إحدى مؤسِسَات تيار رواية «التخييل الذاتي- Auto-Fiction»، وذلك عبر استحضارها لتجاربها في حياتها الخاصة، وأخذ القارئ، بشكل صريح، إلى تفاصيل التفاصيل. بلغة سلسة وموحية، وجملة مكثفة وعميقة، بجراءة بوح نادرة، لا يُقدم عليها إلا من نذر نفسه لفعل الإبداع الروائي الحق، متخطياً جيش المحاذير الأسرية والاجتماعية، وجاعلاً من حياته في لحظاتها الأكثر حميمية، كتاباً مفتوحاً أمام القارئ حيثما كان. وهذا ما يجعل من «الحدث» الإنساني اليومي والعادي شيئاً مكتوباً، ويجعل من الشيء المكتوب حدثاً إنسانياً باقياً بقاء الإنسان.

عام 1974 نشرت آنى آرنو، تحت عنوان رواية، كتابها الأول «الخزائن الفارغة»، ولقد تعرضت فيه إلى حادثة إجهاض لفتاة فرنسية جامعية في بداية العشرينيات من عمرها، على يد ممرضة في إحدى ضواحي باريس. لكن آرنو، تعود عام 2000، لإصدار الرواية ذاتها عن دار «غاليمار»، تحت عنوان «الحدث»، على طريقة رواية «التخييل الذاتي»، وقد قامت الشاعرة والكاتبة المصرية هدى حسين بترجمة الرواية إلى العربية، وصدرت عن دار «ميريت» عام 2003.

تبدأ رواية «الحدث» بمشهد الفحص المخبري لمرض الإيدز، الذي تأتي نتيجته سالبة، ليمر مروراً عابراً، بينما تأخذنا الرواية، على لسان الراوية، بصيغة ضمير المتكلم، إلى ذكرى عصية على النسيان، ذكرى لا يمكن للكاتبة البراء من وجعها إلا عبر التخلص منها، وليس أقدر على الحكي متنفساً لذلك، وليس أقدر من تسجيل ذلك عبر رواية آسرة، تقرأ بجلسة واحدة، وكأنها صديق يسر الى صديقه بنار قلبه، اثر حادثة تأبى على النسيان.

تندرج رواية «الحدث» تحت ما بات يُسمى «برواية الرواية» فالكاتبة تفرش أمام القارئ، بفنية مدروسة، مراحل كتابتها لروايتها، بالرجوع إلى مذكرتها الخاصة، بتواريخها وأماكنها وأشخاصها. وهي في سبيل ذلك، لا توفر أي لحظة حميمية صارخة، أو أي بوح أو جرح يرقد في أعماق نفسها. حتى لو تطلب ذلك تعريتها لأدق تفاصيل حياتها، وكما جرت بها المقادير.

الراوية في طريقها لسرد حكايتها الخاصة والمؤلمة، تسلط الضوء على خفايا الحياة الباريسية، إبان منتصف الستينيات، وتعري قسوة المجتمع على الفتاة الباحثة عن طوق نجاة من محنتها. والحكاية بالرغم من ذلك، تبدو شديدة الإنسانية والحميمية، حتى ليشعر القارئ أنه أمام حكاية قد تحصل في أي مجتمع من المجتمعات، وفي أي وقت من الأوقات، وعلى القرب منه. وربما هذا وحده يعطي الأدب والفن وجههما الأكثر إشراقا، في تقريب تجارب البشر، وجعلها إرثاً إنسانياً خالداً.

«لا أعرف متى رجعت إلى العالم الذي يسمونه طبيعي، عبارة مبهمة لكن البشر كلهم يفهمون معناها» ص82. نعم إن مرور امرأة بمنعطف الإجهاض في مجتمع لا يجيز الإجهاض، تُعد بمثابة عودة جديدة للمرأة إلى الحياة الطبيعية، لكنها عودة تحمل من الذكرى والألم ما يصعب على التجاوز، لكي يبقى محفوراً على لحم القلب. فهل أغلى على المرء من حياته، وهل أصعب عليه من رخصه بهذه الحياة؟