في موازاة هذا الخبر، ما زال بعض الأوساط الأدبية مشغولاً بالجدل الذي يدور منذ ثلاث سنوات بين محكمة إسرائيلية ومواطنتين إسرائيليتين، ويتعلّق بمصير وثائق كافكا الضائعة والمحفوظة في صناديق في منزل مواطنة إسرائيلية، وفي أحد مصارف سويسرا. واللافت أن الوريثتين الإسرائيليتين لم تحصلا على تلك الوثائق عبر قرابة مباشرة، بل ورثتا كنزاً أدبياً من خلال والدتهما، سكرتيرة الكاتب ماكس برود الذي ورث تراث كافكا كله، وبات الصراع حول هوية كافكا بين إسرائيل التي تريد جعله إسرائيلياً باعتبار أنه ينتمي الى الديانة اليهودية، وبين ألمانيا التي كان كافكا يكتب بلغتها، وربما تتدخّل تشيكيا لأن صاحب رواية «المسخ» كان يحمل جنسيتها وكان أحد المعجبين بعاصمتها براغ.

Ad

كذلك، ارتفعت أصوات تقول: «إن فرانز كافكا مات قبل 24 عاماً من نشأة إسرائيل، وإنه أمر مفتعل عندما يريد الإسرائيليون اليوم جعل كافكا شاعراً إسرائيلياً».

وإذا كانت إسرائيل تريد أن تستحوذ على إرث كافكا وتجعله إسرائيلياً، وهي تقرصن عادة كل شيء من فنون كمال بلاطة الى التبولة اللبنانية، فالنقاش الساخن حول كافكا يترافق الآن مع احتجاجات تقوم بها المؤسسات الثقافية الألمانية مثل معهد غوته والأكاديمية الألمانية للغة والشعر وجمعية بروسيا للإرث الثقافي، وغيرها من هيئات عبّرت عن مخاوفها من عملية بيع جزء من الإرث الثقافي الألماني بهذا العمل...

ملك الجمهور

الرسائل التي يعرضها للبيع حفيد شقيقة كافكا أوتيلي والتي كان قد كتبها كافكا بين عامي 1909 و1924، يجب ألا تصبح حسب رأيهم ملكاً لشخص وإنما هي ملك للجمهور، وبالتالي فإن بيعها يهدّد حسب النقاد بفقدان إمكان جعلها موضع بحث أدبي.

يعتبر الخبراء رسائل كافكا مصدراً مهماً لمعرفة هذا الكاتب مساوية في الأهمية لأعماله مثل رواية «القلعة» أو «المحاكمة» أو قصة «التحول»، لذلك دعت المؤسسات الثقافية القلقة من البيع إلى تقديم الدعم المالي للأرشيف الأدبي الألماني في مارباخ كي يستطيع المشاركة في المزاد المقرر في 19 أبريل، ومحاولة الحصول على هذه الرسائل.

وكان هذا المركز قد اشترى مخطوطة رواية «المحاكمة» في الثمانينات من إيستر هوف ودفع ثمنها مبلغاً طائلاً. ويجادل المركز أن كافكا التشيكي الأصل، كتب باللغة الألمانية التي أحبها عندما درس في مدرسة خاصة - كانت لغة النخبة في براغ آنذاك - حتى أجادها وأبدع فيها، الى حد أن لغته وُصفت بـ «الألمانية الصافية» بحسب كثيرين، ومن بينهم الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت.

والنافل أن كافكا كان يزيد عمره عن شقيقته بتسعة أعوام، لذلك وقف إلى جانبها عندما قررت عنوة عن والدها خلال الحرب العالمية الأولى شراء أرض في غرب تشيكيا، وفي علاقتها السرية التي ظلت لفترة طويلة مع عشيقها يوزيف دافيد.

وقد تم الطلاق بينهما في عام 1942 وتوجّب على أوتيلي باعتبارها يهودية التوجّه إلى معسكر الاعتقال النازي حيث لم تخرج منه حية.

رسائل كافكا الى أخته كانت قد صدرت في ألمانيا على شكل كتاب للمرة الأولى في عام 1974 من الخبير بأعمال كافكا هارتموت، ويحتوي على الرسائل العائلية ومعظمها موجّهة إلى شقيقة كافكا أوتيلي وأشبه بالمونولوج الداخلي من طرف واحد بدلاً من الحوار بين المرسل والمتلقي. وكما يبدو، من رسائل كافكا الى أخته فإن والد كافكا لم يفهم ابنه أبداً.

كان والد كافكا رجلاً مستبداً وعدوانياً، ولم يكن أحد يسلم من لسانه الجارح وسلوكه. كان من عائلة فقيرة، لكنه استطاع أن يجمع ثروة لا بأس بها، وكان أحد أسباب تعاسة ابنه فرانز في الحياة. وفي رسالة مؤرخة في 29 أغسطس 1917 كتب كافكا إلى أخته يقول: «قبل ثلاثة أسابيع أصبت بنزيف رئوي». وأخذ يتنقل طلباً للعلاج من مصح الى مصح. كان بحاجة ماسة الى التغذية الجيدة والهواء الطلق والراحة النفسية التي كان من المفروض أن توفرها المصحات الطبية الواقعة خارج العاصمة براغ.

كانت رسائل كافكا الى أوتيلي مرحة يسرد فيها لأخته آخر أخبار المصح والحوادث الطريفة والحكايات المسلية التي لا يخلو منها حتى مصح للأمراض الصدرية. وفي إحدى هذه الرسائل يستدرك كافكا قائلاً: «أرجو ألا يتبادر إلى ذهنك أننا نمضي أوقاتنا هنا في ضحك متواصل ذلك لأن أجواء المصح أبعد ما تكون عن المرح».

كانت وطأة المرض القاتل – الذي لم يكن له علاج في ذلك الزمن، حيث لم تكن المضادات الحيوية قد اكتشفت بعد – تشتد على كافكا يوماً تلو آخر، فيتدفق الدم من رئتيه غزيراً وبمرور الوقت أصبحت رسائله جادة ومقتضبة أكثر فأكثر.

وصيَّة

قبل أن يُتوفّى الكاتب التشيكي المشهور فرانز كافكا بداء السل عام 1924 عن 41 عاماً، أوصى صديقه ومعلّمه ماكس برود بحرق أوراقه كافة، وطلب إليه في الرسالة التي كتبها كوصية، ألا يدع أحداً يطلع على تلك الكتابات. كان كافكا قد نشر كتابات متفرقة في الصحف والمجلات، وأصدر مجموعة قصصية ورواية «المسخ»، ولم تكن أيٌّ من رواياته الشهيرة قد رأت النور بعد. إلا أن برود، صديقَه وموجِّهَه وناشرَ سيرته لاحقاً، لم ينفذ الوصية، ولم يحرق أيَّ ورقة، وارتأى أن ينشر ثلاث روايات، هي: «المحاكمة»، «القلعة»، و{أميركا»، بين 1925 و1927، لينطلق بعدها اسم كافكا ويصبح أحد أشهر أدباء العالم في القرن العشرين.