قبل سنواتٍ بعيدة كنت في زيارة للعاصمة أثينا، وكانت أيام انتخابات بالغة الزحمة، والضجيج. مكبراتُ الصوت مزروعةٌ حيث يوجد مارة. والمدهش أن مكبراتِ الصوت هذه، وبصورة تكاد تكون شاملة، تعزف تسجيلاً ممتازاً لــ»كارمينا بورانا». العمل الكورالي الشهير للموسيقي الألماني كارل أورف (1895 - 1982). وإلى اليوم، ومع معرفتي الأكيدة بهذا العمل، لم أستطع أن أتعرف على علاقته بانتخابات الأثينيين. العمل الكورالي صاخب، وشديد الحماس بالتأكيد. وهو أمر يمكن أن يلمّح لرابط ما. ولكنه من جهة أخرى عمل طقسي، ديني، تنطلق فيه الرغبات الحبيسة، ومنها الرغبات الشهوانية، بصورة لا مرد لها.

Ad

لي ألفةٌ مع هذا العمل، شأن أي محبٍ للموسيقى الكلاسيكية، ولي منه تسجيلات عدة، ثم جاءني هذا الإصدارُ الجديد، عن دار النشر الألمانية Deutsche Grammophon، لأستعيد عبره الحماس القديم الذي يجعلني، وأنا أُصغي له، متحفّزاً، متوثّباً، على وشك أن أعبر الخط الحاسم من الواقع إلى الأسطورة. من تيار الوعي إلى المحيط الغامض الذي يتوهج في ما وراء الوعي. لأن هذا العمل تتزاحم فيه دراما الوحدة، أو التناقض بين الطقس الديني، والطقس الجسدي الحسي. هذا في الموسيقى. وفي النص الشعري لا هوادة في وحدة هذا التناقض أيضاً. فالشعر يأخذ من البدائية الخامة الطرية، التي تُخفي كل عناصر الوعي في مراحله المبكرة (مثل ملحمة جلجامش هنا)، وتُحيله إلى صور حسية لا تُنسى. وإلى محاكمة بريئة، قاسية، لكل محاور الوجود الكبرى. على أني حتى وأنا أُصغي للعزف الجديد لم أستطع أن أنتزع موسيقاه من فورة الانتخابات اليونانية.

«كارمينا بورانا»، في الأصل، مخطوطة لاتينية لأغانٍ تعود إلى القرن الثالث عشر، تم العثور عليها في دير للرهبان ، يقع على سفوح جبال الألب البافارية. ثم حُققت، ونُشرت قبل باحث ألماني يُدعى شميلر في عام 1847.

القصائد قصيرة، تنطوي على جوهر أغنية. ومغنوها يؤدونها على آلة القيثارة. جُمعت من قصائد لشعراء من فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، وإنكلترا. إلى ان جاء كارل أورف ليضع موسيقاها بين عامي 1935 و1936. بعد العرض الأول في مدينة فرانكفورت عام 1937، قال كارل أورف لناشره الموسيقي: لكَ أن تُتلف كل شيء كتبته لحد الآن، وقمت أنت للأسف بنشره. مع كارمينا بورانا تبدأ مجموعة أعمالي.

إن الجذر الشعائري، البدائي في العمل يوحي لنا بأن شيئاً ما غامضاً، وسريا، كامن فيه، لكن موسيقى أورف دفعت بهذا الجذر الغامض إلى ذائقة عصرنا، بفعل تدفق إيقاعها المتواصل، وتوفير قدر من الاضطراب في الهارموني، وحركة النمو. ولكنها، رغم هذا الاضطراب، ذات ألحان سهلة البقاء في الذاكرة.

الرائع في هذا العمل، وهذا الإصدار، أن الذائقة الأدبية تجد كفايتها من المتعة هي الأخرى. فالنص المنشور فيه يضم 25 قصيدة من الشعر الذي يتمتع بغنائية وكثافة عاليتين. يمكن لها أن تُقرأ على حدة كما يُقرأ ديوان الشعر. ولقد تكفل صديقٌ (الفنان مصطفى جعفر) في ترجمتها كاملة لمجلة «اللحظة الشعرية»، وسيُنشر في عددها الذي على وشك الصدور. وللقارئ أغنيتُها الأولى:

الأغنية الأولى

أيها الحظ قُلّبٌ أنت كالقمر، دائم النمو والانمحاق.

الحياةُ البغيضةُ، تضطهدُ في البدءِ وتخففُ الألمَ لاحقاً حين يأخذُ بها الهوى،

تُذيبُ الفقر والغنى معاً كالثلج.

أيها القدرُ الهائلُ الفارغ، يا عجلةً تدور، لكم أنتَ حاقد.

السعادةُ باطلةٌ، فهي إلى زوالٍ أبداً.

مُعتِمٌ أنتَ ومُحتَجِبٌ، وتُصيبني بالكوارثِ أيضاً.

الآن، لاهياً، أجلبُ مؤخرتي العاريةَ إلى رذيلتك.

القدرُ يُعاكسني في العافيةِ وفي الفضيلةِ،

يسوقني ويثقلُ كاهلي ويستعبِدُني دائماً.

لذلكَ، في الساعةِ هذه، ودونَ تأخير، انقُرْ الأوتارَ المُهتَزَّة،

وما دامَ القدرُ يُنزِلُ البلاءَ بالرجلِ القوي، لِيَبْكِ الجميع معي.