لا أكاد أصدق أحيانا ذلك الكم من التواضع الذي لمسته مرات عديدة من أناس بالغي الثراء ولهم من المكانة المجتمعية ما لهم، ولا أكاد أستوعب في المقابل، ذلك الكم الفاحش من الغطرسة والتعالي الذي أراه وقد انعكس على تصرفات وأسلوب البعض من محدثي النعمة.

Ad

دخولي إلى عالم الكتابة الصحفية، ودائرة الإعلام، وكذلك إلى معترك النشاط السياسي، مكنني من الالتقاء بالكثير من الناس على مختلف المستويات، والاحتكاك بمعادنهم والتعرف عليهم عن كثب حين اقتربت منهم في مواقف كشفت لي بعدهم الإنساني، الخالي من تلك الطبقة المصطنعة، التي عادة ما يحيط بها الإنسان نفسه، شعورياً أو لا شعورياً، عند الظهور في وسائل الإعلام!

كثير جداً ما يستحق الحديث عنه على هذا الصعيد، والذي من كثرته قد يستحق كتاباً، لا مقالاً واحد، إلا أن الشيء الذي لطالما لامس نفسي أكثر من غيره هو ملاحظتي أن التواضع وعدم التعالي على الآخرين، يكاد يكون سمة لازمة لمن هم من أهل المال والخير والمقام المجتمعي العالي، ممن ورثوه أباً عن جد، في حين أن التكبر والتعالي والتغطرس، تكاد تلازم محدثي النعمة!

بالطبع، لكل قاعدة شواذ كما يقال، ولذلك فهناك من هم ليسوا ممن وصفت من الفئتين، أعني من أهل الخير والمقام ممن ورثوه أباً عن جد، وكذلك من محدثي النعمة، ولكن هذا الشذوذ هو نفسه الذي يثبت القاعدة، حيث إنه يكشف الصورة السائدة، ولا أشك أنه يوجد تفسير سوسيولوجي / سيكلوجي للمسألة، ولكنني أظن وبشكل مبسط، أن من عاش طوال حياته في ظل الخير والنعمة والاستقرار في هذا الجانب، لم يرتبط في وجدانه أن قيمته كفرد في مجتمعه رهينة بهذا، وأن لمجرد امتلاكه لهذا الثراء ولهذا المقام أو الاسم، صار من حقه التعالي والتكبر على الناس، بل هو يتصرف على سجيته، في حين أن محدث النعمة والجديد على عالم الثروة، وبعدما تجري النعمة في يده في لحظة من الزمن، وتنتقل حالته المادية من مستوى إلى آخر، تظل هذه المفارقة الطبقية غائرة متجذرة في نفسه، فيظل يصارعها وتصارعه، ولا يجد وسيلة للتغلب عليها إلا بارتداء ثوب التعالي والتكبر والطاووسية، ليظهر ذلك بشكل فاحش مبتذل على تصرفاته مع الناس من حوله.

لا أكاد أصدق أحيانا ذلك الكم من التواضع الذي لمسته مرات عديدة من أناس بالغي الثراء ولهم من المكانة المجتمعية ما لهم، وهم من لن أذكر اسم أحد منهم حتى لا يكون في الأمر شبهة تزلف، وحتى لا يكون هناك أيضا أي قدر من حرج عليهم، ولا أكاد أستوعب في المقابل، ذلك الكم الفاحش من الغطرسة والتعالي الذي أراه وقد انعكس على تصرفات وأسلوب البعض من محدثي النعمة ممن أعرف، لمجرد أن الله قد أنعم عليهم ببعض المال، لحكمة هو أعلم بها!

لكن، وهذا من السنن الجارية بين الناس، فلا شيء يجعلك تجل الإنسان وتحترمه مثل كرم أخلاقه، وعلى رأس الأخلاق: التواضع والسماحة واللين، ولا شيء يجعلك تحتقره، بل تكرهه، مثل تكبره وصلفه وثقل نفسه على عباد الله، وفي هذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الترمذي: «يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صور الذر يطؤهم الناس بأرجلهم»! نسأل الله السلامة.