في فبراير من عام 2008، فاجأ الزعيم الكوبي الأسطوري فيديل كاسترو العالم بإعلانه اعتزال الحكم، متخلياً عن منصبي رئيس مجلس الدولة ورئيس الأركان، اللذين أمنا له على مدى نحو نصف قرن السيطرة على السلطة في بلاده من دون أي منازع، ومكّناه من مقارعة الحصار والعزل والضغوط العارمة التي تعاقبت عليه من تسعة رؤساء أميركيين.

Ad

قال كاسترو ببساطة: "أريد أن أخلد إلى الراحة، وسأكتفي بأن أكون جندي أفكار"، وورث الحكم إلى أخيه راؤول، ومضى ليستريح. أما الزعيم الفرنسي التاريخي شارل ديغول، الذي كان على رأس أول دبابة تدخل باريس بعد طرد النازيين في ختام الحرب العالمية الثانية، فقد آثر الاعتزال والخروج من السلطة، لأن التفويض الذي منحه أياه الجمهور من خلال الانتخابات "لم يرض طموحه".

الأمر بالطبع يختلف قليلاً عما فعله العسكري السوداني المحترم الفريق سوار الذهب، فقد أتى الرجل إلى السلطة بانقلاب، ثم ما لبث أن تخلى عنها بإرادته الكاملة، ليسمح بانتخابات ديمقراطية تأتي بحكومة منتخبة.

وهو أمر يختلف اختلافاً شاسعاً عما فعله الملك البريطاني إدوارد الثامن، الذي تنازل عن الحكم، في عام 1936، بإرادته الكاملة لكي يتسنى له الزواج من سيدة أحبها، وليعيش بعد ذلك مكتفياً بلقب "أمير". يبقى أن "العظيم المبجل" نيلسون مانديلا، كما يلقبه أبناء عشيرته، هو أحد أهم العلامات في سجل هؤلاء الذين تنازلوا طواعية عن السلطة وهم في أوج تمكنهم وتألقهم. فقد ناضل مانديلا ضد نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا لعشرات السنوات، وأمضى في السجن 27 سنة، رافضاً أن يتخلى عن كفاح أبناء شعبه الطامحين إلى الحرية والكرامة، وعندما تغيرت الأمور، وأدى الضغط الدولي إلى إطلاق سراحه، وخاض الانتخابات الرئاسية، وبات أول رئيس أسود في بلاده، استطاع أن يغالب شهوة السلطة، فأعلن تقاعده في عام 1999، بعد فترة رئاسية واحدة.

يمكن أن نعد عشرات، بل مئات، الأسماء لحكام تخلوا طوعاً عن مناصبهم ليتفادوا ضغوطاً، أو يجنبوا شعوبهم أزمات، أو يمنحوها أملاً جديداً، أو يخلدوا إلى الراحة، لكننا لن نجد أبداً حاكماً لمصر فعل هذا على مدى تاريخها العتيد. تؤّمن الطبيعة الجغرافية لمصر أوضاعاً سهلة ومريحة لبسط سيطرة الحاكم ونفوذه؛ إذ يتزاحم السكان حول هذا الشريط الأخضر الضيق وعند السواحل، تاركين مساحات مهولة من الصحارى التي لم يألفوا يوماًَ العيش فيها.  ويُمكّن نمط الإنتاج النهري الحاكم من فرض السيطرة عبر التحكم بمياه الري، وجمع الجباية في أوقات الحصاد المعلومة، واحتواء السخط عبر القوة الصلبة. أما طباع المصريين النفسية فهي أكبر ضمانة لاستقرار أي حكم واستدامته؛ إذ تسود الموالاة والطاعة والمقاومة بالحيلة والتعويل على الصبر غيرها من أخلاق السياسة ووسائل مقارعة الظلم.

ينقل القرآن الكريم عن فرعون قوله لرعاياه: "يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي"، وتنقل كتب التاريخ الكثير من الوقائع التي توضح بما لا يدع مجالاً للشك أن الوصول إلى حكم مصر قد يكون أمراً صعب المنال، لكن الاستمرار في هذا الحكم عمل سهل وعوائده مغرية، حيث لا تزعزعه الضغوط بسهولة، وحيث لا يحد عوائده وأمجاده وصلاحياته حد.

على مدى قرنين من الزمان، لم تشهد مصر تنازعاً على الحكم واضحاً إلا مرتين؛ إحداهما جرت في عام 1952، حين انقلب "الضباط الأحرار" على سلطة الملك فاروق، وأزاحوه وأنشؤوا الجمهورية، وثانيتهما حين ظهر صراع واضح داخل قصر الحكم بين محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة وابنه إبراهيم باشا في السنوات الأخيرة من العقد الخامس من القرن التاسع عشر.

لم تأت الضغوط على الحاكم على مدى القرنين الفائتين من الجمهور الذي عرف معاناة كبيرة وأظهر الكثير من الضجر، لكنها أتت من القوة الصلبة المتمثلة في الجيش أو من داخل القصر من وريث طامح.

منذ خضع الرئيس مبارك، الذي أتم 82 عاماً من العمر و29 عاماً في السلطة، لعملية جراحية في شهر مارس المنصرم والتكهنات تتزايد عن عدم ترشحه لفترة رئاسية سادسة في انتخابات تجري نهاية العام المقبل، خصوصاً أنه من المفترض أن يقترب من التسعين من عمره إذا أتم تلك الولاية المنتظرة. وعلى مدى نحو ست سنوات أو أكثر قليلاً، بدا ترشح نجله جمال لمنصب الرئاسة في حياته أحد أكثر السيناريوهات تداولاً، خصوصاً بعدما أظهر هذا الشاب رغبة واضحة في توسيع رقعة نفوذه، وبعدما بات له مناصرون في الحزب الحاكم والحكومة والشارع السياسي لدعم حظوظه في وراثة منصب والده.

لم يقطع مبارك الأب وكذلك نجله أبداً بترشح هذا الأخير من عدمه، كما حرص الرئيس على ترك مسألة ترشحه شخصياً لولاية جديدة إلى ما قبل الانتخابات الرئاسية المنتظرة مباشرة، الأمر الذي أنتج حالة من التبلبل وساعد على تضارب التكهنات.

في شهر يوليو الماضي، قال القيادي المهم في الحزب الحاكم علي الدين هلال إن "الحديث عن ترشيح شخص آخر للرئاسة أثناء وجود مبارك قلة أدب"، وبعدها بشهر واحد كان السياسي المخضرم ورئيس مجلس الشورى صفوت الشريف يبلغ صحيفة أسبوعية بأن "هناك إجماعاً حزبياً من قيادات الحزب الوطني وقواعده على الرئيس مبارك مرشحاً باسم الحزب الحاكم في الانتخابات الرئاسية".

كان مبارك يفتتح بعض المشروعات في مجالي النقل والري الأسبوع الماضي، حين أصدر أوامر صارمة لمساعديه، قائلاً: "إذا أتيتم إلي بطلب مد مهلة تسيير المقطورات في 2012، فلن أوافق"، وكان قبلها بشهور قد ألمح إلى أنه "سيفتتح متحفاً في 2017".

في نهاية الأسبوع الماضي، كان علي الدين هلال يتحدث إلى قناة "الحرة" عن انتخابات الرئاسة المقبلة، حيث قال بحزم ووضوح شديدين: "محمد حسني مبارك هو مرشح الحزب الوطني لانتخابات الرئاسة 2011".

لم يعد هناك أي شك في أن مبارك، الذي سبق أن أعلن بعد عودته من العملية الجراحية الأخيرة أنه سيبقى في منصبه "حتى آخر نفس في صدري"، عازم على الترشح والبقاء في سدة الحكم، وأنه كغيره من سابقيه يفضل دوماً الخلود في منصبه عن الخلود إلى الراحة. ويبقى أن الجماعة الوطنية المصرية التي عارضت التوريث وحاربته ستبتهج قليلاً لابتعاد شبحه، قبل أن تصحو سريعاً على حقيقة أن البلاد ستنعم بمزيد من الاستقرار، لكن المعاناة ستستمر من الفساد والاستبداد والركود وتراجع الدور وانسداد الأفق.

* كاتب مصري